Monday, February 13, 2012

ورثة الأنبياء - لسماحة الدكتور نوح علي سلمان

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
بلغ التواضع بعلماء أهل السنة أنهم لا يحدثون الناس عن منزلة الفقهاء عند الله وأثرهم في إبلاغ ما أنزل الله على رسوله، وواجب الأمة تجاههم، وسبب ذلك أن مَن تحدث في هذه المواضيع يُلمز بأنه يريد أن يلفت انتباه الناس إليه، وأن تكون له منزلة في قلوبهم وموقع مناسب في مجتمعهم، إضافة إلى ما بدأت به من أن التواضع خلق محمود، حث عليه الشرع، واتصف به خيرة السلف الصالح، لكن إذا وصل الأمر إلى التعتيم على أمر مهم في الدين فإن السكوت يصبح في غير موضعه.
كل من قرأ كتب السنة يرى أن المحدثين يفردون بابا خاصا يجمعون فيه ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحث على طلب العلم، والمراد به قطعا العلم الذي تبقى به الرسالة الإسلامية حية بين الناس هدى ورحمة للعالمين، وحجة لله على عباده.
أما بقية العلوم التي تقوم بها حياة الناس المادية، والتي يشاركنا فيها أصحاب الديانات الأخرى فتأتي تبعا؛ لأن المقصود منها بقاء الأمة التي تحمل الإسلام، ووجود مقومات الحياة اللازمة لمن يحمل الإسلام، ولهذا كانت العلوم الحياتية من فروض الكفاية إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الجميع.
أما العلوم الشرعية فمنها ما هو فرض عين يجب على كل مسلم أن يعرفه، ولا يعذر أحد في الجهل به، وهو ما تصح به الواجبات الشرعية، سواء كانت من حقوق الله كالعبادات، أو من حقوق العباد كالشروط التي تصح بها المعاملات التي يمارسها الشخص، وهذه العلوم لا يمكن تلقيها إلا من قبل العلماء المختصين بالعلوم الشرعية.
أقول إن الذي ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في فضل العلم والعلماء والحث على طلب العلم كثير يوحي بأهمية علماء الشريعة في حياة المسلمين ومجتمعهم.
من ذلك قول الله تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) التوبة/122، وقوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) الزمر/9 وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) متفق عليه.
وعلى أرض الواقع الصلاة عماد الدين، وأهم ركن فيه بعد الشهادتين، وصلاة الجماعة مظهر من مظاهر وحدة الأمة الإسلامية، وصلاة الجمعة مؤتمر إسلامي أسبوعي لبحث الشؤون الدينية والدنيوية، المحلية والعامة، وإذا اجتمع الناس لصلاة الجماعة تقدم الإمام على الجميع، ووقف الكل خلفه مهما كانت منازلهم الاجتماعية، وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتقدم الصحابة ويتأخرون عنه إذا وقفوا للصلاة، أليس هذا يعني أن الإمام وارث للرسول صلى الله عليه وسلم؟!، وفي صلاة الجمعة يصعد الخطيب أعلى مكان في المسجد ويخطب ولا يجوز لأحد أن يقاطعه أو يتكلم أو يتشاغل عنه بشيء، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرقى المنبر وينصت الصحابة.
حقا إن الخطيب أيضا وراث للنبي صلى الله عليه وسلم، والمفروض في الإمام والخطيب أن يكون عالما، لا أقول أعلم الحاضرين، لكنه عالم بما يلزم من أحكام شرعية لوقوفه موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بالإضافة إلى هذه الأمور المعنوية للوراثة توجد أمور مادية، فقد فرض الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم خمس خمس الغنائم، قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) الأنفال/41
وبعد أن لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى لمن تكون حصته من الغنائم والفيء؟
لقد قرر الفقهاء أنها تكون لمن قام بشأن الدين من بعده، وهم العلماء والقضاة والأئمة والمؤذنون وحماة الحدود والقائمون على رعاية المصالح العامة؛ لأن هؤلاء يُحمى بهم الدين، وتُحمى بهم البلاد، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على حفظ الدين والبلاد، وهم ورثته من بعده.
وهذا يعني أمرين:
الأول: أن يكون العلماء على مستوى المسؤولية، علمًا وسلوكا وحكمة، فإن الناس ما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل رأوا العلماء، وهم يعتقدون أن العلماء يمثلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتصرفون كما كان يتصرف، فليتق الله العالم، فإن قوله وفعله بل وسكوته محسوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أثقلها من مسؤولية، وما أعظم أجرها لمن قام بها.
والثاني: أن يحترم المسلمون علماءهم احتراما للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ) رواه أبو داود.
وكما نشدد على العلماء في وجوب الالتزام بالسلوك اللائق بالأنبياء نقول للناس أن العصمة ليست إلا للأنبياء وما عداهم قد تعثر قدمه فلا يجوز تتبع العثرات والتغاضي عن الحسنات فإن هذا لا يجوز مع المسلم العادي، فكيف بمن يمثلون الإسلام، وقد قيل: ثلاثة لا تذكر هفواتهم: العلماء، وآل البيت، وأهل الحرمين "؛ لأن هؤلاء بشر قد تزل أقدامهم، لكن الطعن فيهم طعن غير مباشر بالإسلام.
ومن هنا نجد أعداء الإسلام يتتبعون هفوات العلماء السابقين والمعاصرين ليصلوا بذلك إلى الطعن في الإسلام، ويقلدهم السذج من المسلمين باسم البحث العلمي والوقوف على الحقيقة، فيؤذون أنفسهم وأمتهم ودينهم وهم لا يشعرون، ومرة أخرى أقول: لا عصمة إلا لنبي أو رسول.
ويجب على العلماء أن يحدثوا الناس عن حرمة العلماء ووجوب إجلالهم، ومعرفة قدرهم، وهذا لا ينافي التواضع المحمود، ولا يعني تعظيم النفس، فقد قال العلماء: النبي هو من أوحي إليه بشرع وإن لم يؤمر بتبليغه، لكن يجب أن يعلم الناس بأنه نبي كي لا يقع به إنسان فيكفر، لأن الوقوع بالأنبياء كفر، وهكذا يجب أن يخبر العالم الناس بحرمة العلماء كي لا يقعوا في أمر كبير، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ) رواه البخاري. وقد قال الشافعي رحمه الله: إذا لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي.
فاحترام العلماء احترام للدين ووقاية من التعرض لغضب الله تعالى، وما رأينا أحدا وقع في العلماء إلا أخذه الله في الدنيا قبل الآخرة، فلحم العلماء مسموم.
وأضعف الإيمان أن يحترم أهل السنة علماءهم كما يحترم أهل المذاهب الأخرى علماءهم، وأن يجلوهم كما يجل أهل الديانات الأخرى علماء دينهم.
ولقد هانت والله إذ نطالب بهذا، لكنه أضعف الإيمان الذي ما بعده إيمان، ونحن حريصون على إيمان كل مؤمن.
 http://www.aliftaa.jo/index.php/ar/articels/show/id/45

التسامح الديني ونبذ العنف والإرهاب - لسماحة الدكتور نوح علي سلمان

 
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
حديثي إليكم أيها الإخوة عن التسامح الديني ونبذ العنف والإرهاب، ولا بد في بداية الحديث أن نعرِّفَ التسامح والعنف والإرهاب.
أما التسامح الديني فهو عدم اضطهاد الناس بسبب دينهم، واتساع أبواب الدين لكل البشر كما أن التسامح يعني عدم إحراج أتباع الدين بالأحكام التي تشرع لهم، وأما العنف فهو استعمال القوة لتحقيق هدف ما، فإن كان الهدف مشروعا فالعنف مشروع، كالعنف الذي تستعمله قوات الأمن عند الضرورة لدفع شر المجرمين وإبطال عنفهم، وإن كان العنف لتحقيق هدف غير مشروع فهو عنف غير مشروع، كالعنف الذي يستخدمه المجرمون ضد الأبرياء لابتزاز أموالهم والسطو على أعراضهم.
ومثل هذا يقال في الإرهاب، فالإرهاب هو التخويف، فإن كان لتحقيق هدف مشروع فهو إرهاب مشروع، كإرهاب العدو كيلا يعتدي على بلادنا، وإرهاب المجرم كيلا يقدم على الجريمة، قال الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) الأنفال/60
والذي نود توضيحه في هذه المحاضرة هو سماحة الدين الإسلامي، بمعنى سعة أفقه واستيعابه لكل شرائح المجتمع، إلى جانب رفع الحرج عن الناس في الأحكام التي يدعوهم إلى تطبيقها، ويلزمهم العمل بها، كما نبين موقفه من العنف والإرهاب.
وبيان ذلك أن هذا الدين أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وخاطب به كل البشر، قال الله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) إبراهيم/1، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) سبأ/28 ، فهو مؤهل ليستوعب كل الناس.
وهذه العالمية في الدعوة الإسلامية نراها نحن المسلمين أمرا عاديا؛ لأننا ألفناها وتعلمناها منذ الصغر، ولكنها تبرز بصورة مميزة إذا تذكرنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وَكَانَ النَّبيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً ، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً) متفق عليه، فبعض الديانات قومية لا تقبل غير القوم الذين أنزلت فيهم.
وهذه الميزة جعلت الإسلام يتسع لكل الشعوب على اختلاف طبقاتهم ولغاتهم وألوانهم، فرأينا الأمم المختلفة تدخل في هذا الدين ليصبحوا بعد ذلك إخوانا متحابين، فهو لا يميز طرفا على حساب طرف، ولا قوما على حساب آخرين، وكم رأينا من غير العرب من دخل في الإسلام ثم صار له موقع مميز بين المسلمين من عرب وعجم، سواء كان ذلك في مجال العلم والتقوى، أم في مجال السياسة والحكم، أم في مجال الاقتصاد والجهاد؛ لأن القاعدة التي يرجع إليها الجميع هي قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الحجرات/13.
ذلك أن التقوى لا يعلم حقيقتها إلا الله، فهو خبير بأحوال عباده الظاهرة والباطنة، وهذا التسامح مع كل الشعوب يعني أن من دخل في الإسلام لن يكون مواطنا من الدرجة الثانية، بل هو نظيرٌ لغيره من المسلمين، يقف معهم على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، وهذه أيضا ميزة شجعت على الدخول في الإسلام، ولا نعرف قدرها إلا إذا نظرنا إلى الكثير من الأنظمة والقوانين في العالم التي لا تجعل الوافد مساويا للمواطن مهما طالت مدة إقامته في البلد الذي هاجر إليه، ومهما كان إخلاصه للوطن الذي يعيش فيه، وإذا كان هذا الإجراء التنظيمي له مبررات أمنية واجتماعية نقدرها ولا نناقشها، فإن الإسلام فتح الباب للجميع ليقفوا بين يدي الله عبادا متساوين متحابين، فلا ينظر أحدهم إلى غيره شزرا وحقدا لأنه يخالفه في اللغة أو اللون، وإذا كانت الولايات المتحدة تتحدث عن رئيس أسود، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنا: (عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) رواه البخاري.
أما غير المسلمين الذين يعيشون في المجتمع الإسلامي، فإن الشريعة الإسلامية تعتبرهم جزءا من هذا المجتمع، وهم في حماية جميع المسلمين، بل في حماية الله تعالى وحماية رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى كونهم أهل ذمة، أي في حماية الله ورسوله، لا يجوز الاعتداء عليهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) رواه البخاري.
وقد ترك لهم عقائدهم وما يتعلق بها من أحكام في طعامهم وشرابهم وحياتهم الأسرية، لكن يطبق عليهم النظام العام للمجتمع الإسلامي.
وكما لا يضطهدون في عقائدهم لا يسمح لهم أن يتدخلوا في الشؤون الدينية للمسلمين، وإذا حسن التعامل معهم، ورأوا من أخلاق المسلمين ما يجب أن يكون عليه كل مسلم سيدخلون في الإسلام طواعية، وهذا ما حصل في كثير من المجتمعات التي وصل إليها الإسلام، فرأي فيه غير المسلمين ما يوافق أصول دياناتهم ووصايا وتعاليم أنبيائهم، فلم يروا بعد ذلك داعيا لأن يظلوا بعيدين عن الإسلام، فانخرطوا في صفوف المسلمين ظاهرا وباطنا، وحسن إسلامهم، وخدموا الإسلام خدمات جليلة.
ومن مظاهر هذا التسامح:
1- احترام جميع الأنبياء " لا نفرق بين أحد من رسله "، (قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) البقرة/136. مع ملاحظة أننا نؤمن بأصل الدين كما أنزل، لا بالتحريفات التي طرأت فيما بعد.
2- الأدب في الحوار مع الديانات: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) العنكبوت/46.
3- الرسول صلى الله عليه وسلم كان له جيران من اليهود، وكان يعاملهم بالحسنى لأنهم لم يكونوا محاربين، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يصلِّ في كنيسة القيامة كيلا تتخذ مسجدا بعد ذلك.
هذا من جانبنا، لكن ما فعله الآخرون؟
1- الحروب الصليبية، وما قتلوه من المسلمين في القدس.
2- محاكم التفتيش في الأندلس.
3- القتل على الهوية في البوسنة والهرسك.
4- العدوان على المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال والهند.
قال تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ . النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ . إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ) البروج/4-6.
إن التسامح والإنصاف يفتحان الأبواب المغلقة والقلوب المقفلة، حتى المسلم الذي انحدر من أبوين مسلمين إذا تدبر سماحة الإسلام تشبث به، وأصر عليه، وتبنى قضيته، ودعا بدعوته، وهذا الجانب الثاني من سماحة الإسلام، أعني التيسير في أحكام الشريعة الإسلامية.
وهنا نجد عددا كثيرا من آيات القرآن، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقواعد الفقه الإسلامي، تؤكد على هذا المعنى:
قال الله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة/185
وقال جل جلاله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج/78
وقال صلى الله عليه وسلم: (يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا ، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا) متفق عليه.
واتفق الفقهاء على أن المشقة تجلب التيسير، ومن هنا جاز التيمم عند فقد الماء، وجاز للمريض أن يصلي قاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنب، وجاز للمسافر أن يقصر الصلاة، وأن يفطر في رمضان، وغير هذا كثير من الأحكام التي شرعها الله لعباده تيسيرا وتخفيفا عليهم.
وليس معنى هذا الانفلات من الأحكام الشرعية، وأن يفعل الإنسان ما يريد، ويترك من الأحكام الشرعية ما يشاء بحجة التيسير، بل الرخص الشريعة لها أحكام وضوابط لا يعجز المسلم المهتم بأمر دينه المقبل على ربه عن تطبيقها، في أي ظرف من الظروف، ولهذا لا يجد المسلم حرجا في تطبيق أحكام الشريعة، كما لا يستطيع الانفلات من أحكامها الدقيقة.
وتسري هذه الروح السمحة إلى أخلاق المسلمين وهم يتعاملون فيما بينهم، ويتعاملون مع غيرهم. قال الله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) الأعراف/199، وقال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) آل عمران/134. وقال تبارك وتعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم/4، لينبه أمته جميعا، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم مثله الأعلى في الخلق الحسن.
وحتى في الظروف الحربية التي يتجاوز فيها الكثير من الناس حدود الأدب واللياقة والرحمة بالإنسان، نجد الإسلام يأمر المسلم بأن يكون منضبطا في تصرفاته، لا يتجاوز حدود الله في ساعات الغضب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّ النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ اللَّهُ) متفق عليه.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان، كما نهى عن التمثيل بقتلى الأعداء، ونهى عن الغدر، بل أمر بمعاملة نظيفة واضحة حتى مع الخصوم في الحرب، قال الله عز وجل: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) الأنفال/58، أي: أعلن لهم رفض المعاهدات التي بينك وبينهم، ليكون الأمر واضحا بعيدا عن الغدر.
لقد كلفت هذه الأحكام المسلمين الكثير في تعاملهم مع الآخرين، ولكنهم ظلوا المثل الأعلى والقدوة الحسنة في التعامل بين الناس في السلم والحرب، حتى قال عنهم خصومهم: ما عرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب. يعني: المسلمين الذي كان يقودهم العرب، ويعبرون عن حضارتهم باللغة العربية.
تلك هي مسيرتنا خلال التاريخ، تشريعٌ سمح، ومسلمون كرماء.
ثم جدَّت ظروف جعلت البعض يخرج عن هذا المنهج المعتدل، فحدث ما يسمى بالتطرف، وأخذ التطرف ينمو باتجاهين - ومنهما تولد العنف غير المشروع والإرهاب غير المشروع -:
الاتجاه الأول: التحلل من القيم الإسلامية والأحكام الشرعية، وانتهاج مناهج تخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بحجة التطور والتمدن ومقتضيات العصر ومتطلبات الحياة، وهذا التطرف لا يكاد يذكر عندما يتحدث الناس عن التطرف والإرهاب في المؤتمرات وغيرها، مع أنه سبب التطرف الثاني، فقد وجدنا من أبناء المسلمين من يريد من الأمة الإسلامية أن تلتحق بغيرها من الأمم، وأن تحيد عن شريعة الله لتكون تابعة لغيرها، بعد أن كانت متبوعة من قبل الشعوب والبلدان الإسلامية، حتى سمعنا مَن يتطاول على الإسلام والقرآن وشخص النبي صلى الله عليه وسلم، ويطعن بآل بيته الطيبين الطاهرين.
والحق أن هذا الفكر قد انحسر ولم يجد رواجا بين جماهير المسلمين، بل رأينا من أقطاب الدعاة إليه من عادوا إلى الله، تائبين مستغفرين من نزوات الشباب الذي جعلهم يجرون خلف سراب لم يجدوا فيه نفعا، ولم يجدوا فيه رفعة لأمتهم، ولا خروجا من مأزقهم.
وبقيت له عقابيل كعقابيل المرض، تتمثل في التحلل من الالتزامات الشرعية، والمجاهرة بالخروج عن أحكام الدين.
وهؤلاء أيضا نرى الكثير منهم يعودون إلى الله، ويلتزمون بأحكام الشريعة الإسلامية، ويتوبون عن مخالفاتهم التي عملوها، وقد كان للوعظ والإرشاد والتوجيه الديني في المؤسسات الرسمية من مساجد ومعاهد ومدارس وكليات أثر في هداية هؤلاء؛ لأن مادة الثقافة الإسلامية توليها المملكة الأردنية الهاشمية عناية خاصة في كل مجالات التعليم، إلى جانب وسائل الإعلام المتعددة التي تدعو المسلمين إلى الإسلام، وتذكره بحقائق دينهم.
والذي ينظر إلى الشارع الإسلامي في هذا البلد يجد الدليل على ما نقول، فالحجاب منتشر في الجامعات والمدارس، والمساجد ممتلئة بالمصلين من رجال ونساء وشباب وشيوخ، وإذا تذكرنا الأزمة السياسية التي توشك أن تطيح بحكومة منتخبة في بلد إسلامي بسبب الحجاب، عرفنا مدى أهمية هذا الحجاب كمظهر إسلامي يدل على عقيدة في القلب.
هذا إلى جانب مظاهر إسلامية أخرى في بلدنا العزيز.
وأنا لا أنكر وجود مظاهر مخالفة للإسلام تعد تطرفا سلبيا مزعجا، لكنها في نفس الوقت لا تشكل ظاهرة تدل على انصراف الأمة عن دينها، وندعو الله أن يهدينا جميعا سواء السبيل.
أما الاتجاه الثاني للتطرف - وهو الذي يتحدث عنه الناس في المؤتمرات -:
فهو التشدد والمغالاة في تطبيق الأحكام الشرعية، وفرض ولاية على الناس ليس لها سند شرعي ولا قانوني، بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولا شك أن الاتجاه الثاني يتغذى من وجود الاتجاه الأول، بمعنى أن استثارة الشعور الديني من خلال المخالفات الشريعة الصريحة يكون رد فعله الغلو والتشدد بأمر الدين، مع أن هذا ليس مبررا منطقيا للتشدد، فالدنيا من عهد آدم عليه السلام إلى قيام الساعة فريقان: فريق في الجنة وفريق في السعير، ونحن لا نتمنى السعير لأحد، لكنها حقيقة، والنجاة في التوسط لا في التطرف، سواء كان التطرف سلبا أم إيجابا، وقد قيل: (الحق لا إفراط ولا تفريط) بل اعتدال والتزام بالصراط المستقيم.
ويضاف إلى هذا الواقع المؤلم الذي تعيشه بعض الأقطار الإسلامية، وتنقله وسائل الإعلام التي طبقت الأرض في زماننا، ويطلع فيها الصغير والكبير والغني والفقير على مجريات الأحداث العالمية اليومية بالصوت والصورة، وهذه تجرح الشعور، وتجعل رد الفعل في بعض الأحيان غير منضبط لا شرعا ولا عقلا.
وقد أدى هذا التطرف إلى تكفير بعض المسلمين لبعض، وإراقة دمائهم، والتشفي من قتلاهم، وهو أمر مؤسف حقا، وحجم هذا التطرف كبير، وآثاره مزعجة، والسيطرة عليه ليست بالأمر اليسير، ولذا يجب أن نتعاون لإيجاد قناعة لدى هؤلاء الناس توقفهم عند حد الاعتدال،وتمنعهم برفق عن الخروج من الجادة إلى التطرف. وهذا ما تقوم به عدة مؤسسات.
ويمكن أن نلخص جهد التوجيه الديني في هذا المجال بما يلي:
1- الجهر بكلمة الحق، لكن بلطف وحكمة، دون تساهل في أحكام الشريعة، ولا تشديد على عباد الله، فإن بعض الفتاوى والمقولات المتساهلة التي يطلقها بعض الرموز الدينية الرسمية تؤدي إلى التطرف، ويقتضي الواجب أن ننهج المنهج القرآني في بيان الحق، وبيان عواقب الالتزام به والخروج عنه. قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف/29. ثم بين تعالى عاقبة الكافرين المؤلمة، وعاقبة المؤمنين السعيدة، وعلى الإنسان أن يتخير بعد ذلك، ولن نختار إلا الحق إن شاء الله.
2- بيان الفرق بين الأحكام الشرعية المتعلقة بالإنسان، فبعض الأمور يجب فعلها لأنها فرائض، وبعض الأمور من باب الفضائل، يفعلها من رغب في مزيد من الخير، وبعض الأمور محرمات لا يجوز فعلها، وبعضها مكروهات ويتنزه عنها النبلاء من المسلمين، وبعض الأعمال تعد كفرا، وهي قليلة جدا، وبعضها معاص لا يخرج صاحبها من الملة الإسلامية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنْ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رُخْصَةً لَكُمْ لَيْسَ بِنِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا) رواه البيهقي.
3- إن واقع الناس لا بد فيه من التنوع، ففيهم المسلم والكافر، والمؤمن والعاصي، ولا بد من بقاء هذه الأنواع مهما بذلنا من جهد، قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ) الكهف/6، وقال عز وجل: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) فاطر/8، نحن لا نقر المعصية ولا نرضى بها، لكن لا ينبغي أن نكلف أنفسنا أكثر مما استطاعه الأنبياء عليهم السلام، فقد خرجوا من الدنيا وفيها الصالح والطالح والمؤمن والكافر.
4- بيان الفرق بين الأحكام الشرعية المتعلقة بشخص المسلم، وبين الأحكام الشرعية المتعلقة بالمجتمع الإسلامي.
أما ما يتعلق بشخص المسلم فيجب أن يطبقه كاملا ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وأما ما يتعلق بالمجتمع فذلك مسؤولية ولاة الأمور، لا يكلف الفرد بتطبيقها، والنصوص والأحكام التي توضِّحُ هذا الفرق كثيرةٌ في المصادر الإسلامية.
5- بيان الفرق بين ما يجب في الظروف العادية، وما يجب في الظروف الاستثنائية، وشتان بين أمّةٍ مُتَّحِدةٍ قوية، وأمّةٍ غُلبت على دارها، وغاية جهدها أن لا تُغلب على عقيدتها، ومراعاة الفرق بين هذا وهذا تبطل الكثير من حجج الذين لا يراعون هذه الفروق.
6- من القواعد الشرعية أن الضرر الأخف يُرتكب تفاديًا للضرر الأشد، وسكوت المسلم على بعض الأمور لا يعني إقرارها، ولكن تفاديا لشرٍّ أعظم، ويجوز السكوت عن إنكار المنكر إذا ترتب على إنكاره منكرٌ أكبر.
7- بيان ما تغيَّرَ من أحوال المسلمين، وأنهم لا يعملون بمعزل عن بقية العالم، فالعالم اليوم مترابط، وتراعي كل دولة فيه الظروف الخارجية، سواء في القرار الداخلي والخارجي.
8- الحرص على تعليم الشريعة الإسلامية، ودعم المعاهد الدينية والكليات الشرعية الرسمية، لأن الذين سلكوا مسلك التطرف ما تَخَرَّجوا من هذه المعاهد التي تأخذ وقائع الحياة متكاملة، وإنما أخذوا مسائل ومواقف عن أشخاص ما تخرجوا من المعاهد الشرعية، ثم عمَّمُوا تلك المواقف، ووصل الأمر إلى ما وصل إليه، وإلا فأيُّ فقيهٍ من أصحاب المذاهب يفتي بقتل مجموعة من المسلمين، ليحاول قتل عدو واحد، وقد لا يقتله؟!
هذه الأمور متشابكة، والذي ذكرته قليل من كثير، ونحن نسعى من خلال وسائل الاتصال والإعلام الحديثة إلى نشر هذا الفكر الإسلامي الأصيل، وليس لنا على الناس إلزام، لكن نقول كلمة الحق معذرة إلى الله، وإبراءً للذمة من حق الأمة الإسلامية، وهذا ما نستطيع، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
http://www.aliftaa.jo/index.php/ar/articels/show/id/122

Thursday, February 9, 2012

نحن المسلمين! - لفضيلة الشيخ علي الطنطاوي

سلوا عنا ديار الشام ورياضها، والعراق وسوادها، والأندلس وأرباضها، سلوا مصر وواديها، سلوا الجزيرة وفيافيها، سلوا الدنيا ومن فيها..
سلوا بطاح إفريقيا، وربوع العجم، وسفوح القفقاس، سلوا حفافي الكنج، وضفاف اللوار، ووادي الدانوب، سلوا عنا كل أرض في الأرض، وكل حيِّ تحت السماء..
إن عندهم جميعا خبراً من بطولاتنا وتضحياتنا ومآثرنا ومفاخرنا وعلومنا وفنوننا.. نحن المسلمين!!
هل روى رياض المجد إلا دماؤنا؟ هل زانت جنَّات البطولة إلا أجساد شهدائنا؟ هل عرفت الدنيا أنبل منا أو أكرم، أو أرأف أو أرحم، أو أجلَّ أو أعظم، أو أرقى أو أعلم؟
نحن حملنا المنار الهادي والأرض تتيه في ليل الجهل، وقلنا لأهلنا: هذا الطريق!.
نحن نصبنا موازين العدل، يوم رفعت كل أمة عصا الطغيان.
نحن بنينا للعلم داراً يأوي إليها، حين شرده الناس عن داره.
نحن أعلنَّا المساواة، يوم كان البشر يعبدون ملوكهم، ويؤلِّهون ساداتهم.
نحن أحيينا القلوب بالإيمان، والعقول بالعلم، والناس كلَّهم بالحرية والحضارة.
نحن المسلمين!
نحن بنينا الكوفة، والبصرة، والقاهرة، وبغداد.
نحن أنشأنا حضارة الشام، والعراق، ومصر، والأندلس.
نحن شِدنا بيت الحكمة، والمدرسة النظامية، وجامعة قرطبة، والجامع الأزهر.
نحن عمرنا الأموي وقبة الصخرة، وسُرَّ من رأى، والزهراء، والحمراء، ومسجد السلطان أحمد، وتاج محل.
نحن علَّمنا أهل الأرض وكنا الأساتذة وكانوا التلاميذ.
نحن المسلمين!
منَّا أبو بكر، وعمر، ونور الدين، وصلاح الدين، وأورنك زيب . منَّا خالد، وطارق، وقتيبة، وابن القاسم، والملك الظاهر.
منَّا البخاري، والطبري، وابن تيمية، وابن القيم، وابن حزم، وابن خلدون.
منَّا معبد وإسحاق وزرياب.. منا كل خليفة كان الصورة الحيَّة للمثُل البشرية العليا.
وكل قائد كان سيفاً من سيوف الله مسلولاً.. وكل عالم كان من البشر كالعقل من الجسد.
منَّا مائة ألف عظيم وعظيم.
نحن المسلمين!
قوتنا بإيماننا، وعزنا بديننا، وثقتنا بربنا..
قانوننا قرآننا، وإمامنا نبينا، وأميرنا خادمنا.. وضعيفنا المحقُّ قويٌّ فينا، وقويُّنا عون لضعيفنا، وكلنا إخوان في الله، سواءٌ أمام الدين.
نحن المسلمين!
مَلَكنا فعدلنا، وبنينا فأعلينا، وفتحنا فأوغلنا، وكنا الأقوياء المنصفين، سننَّا في الحرب شرائع الرأفة، وشرعنا في السلم سنن العدل، فكنا خير الحاكمين، وسادة الفاتحين..
أقمنا حضارة كانت خيراً كلها وبركات، حضارة روح وجسد، وفضيلة وسعادة، فعمَّ نفعها الناس، وتفيأ ظلالها أهل الأرض جميعا، وسقيناها نحن من دمائنا، وشدناها على جماجم شهدائنا!.
وهل خلت الأرض من شهيد لنا قضى في سبيل الإسلام والسلام، والإيمان والأمان؟
نحن المسلمين!
هل تحققت المثُل البشرية العليا إلا فينا؟
هل عرف الكون مجمعاً بشريًّا إلا مجمعنا، قام على الأخلاق والصدق والإيثار؟
هل اتفق واقع الحياة، وأحلام الفلاسفة، وآمال المصلحين، إلا في صدر الإسلام؟
يوم كان الجريح المسلم يجود بروحه في المعركة، يشتهي شربةً من ماء، فإذا أخذ الكأس رأى جريحا آخر فآثره على نفسه، ومات عطشان.
يوم كانت المرأة المسلمة يموت زوجها وأخوها وأبوها، فإذا أخبرت بهم سألت: ما فعل رسول الله؟ فإذا قيل لها: هو حيٌّ، قالت: كل مصيبةٍ بعده هيِّنة.
يوم كانت العجوز ترد على عمر، وهو على المنبر في الموقف الرسمي، وعمر يحكم إحدى عشرة حكومة من حكومات اليوم.
يوم كان الواحد منَّا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويؤثره عليها ولو كان به خصاصة.
وكنَّا أطهاراً في أجسادنا وأرواحنا ومادتنا والمعنى.
وكنَّا لا نأتي أمراً ولا ندعه، ولا نقوم ولا نقعد، ولا نذهب ولا نجيء إلا لله.
قد أَمَتْنَا الشهوات من نفوسنا، فكان هوانا تبعاً لما جاء به القرآن.
لقد كنَّا خلاصة البشر، وصفوة الإنسانية.
وجعلنا حقًّا واقعاً ما كان يراه الفلاسفة والمصلحون أملاً بعيداً.
 نحن المسلمين!
تُنظم في مفاخرنا مائة إلياذة  وألف شاهنامة . 
ثم لا تنقضي أمجادنا ولا تفنى، لأنها لا تُعدُّ ولا تُحصى.
من يعدُّ معاركنا المظفرة التي خضناها؟... من يحصي مآثرنا في العلم والفن؟
من يستقري نابغينا وأبطالنا؟.. إلا الذي يعدُّ نجوم السماء، ويحصي حصى البطحاء!!.
اكتبوا ( على هامش السيرة) ألف كتاب.. و ( على هامش التاريخ) مثلها.
وأنشئوا مائة في سيرة كل عظيم، ثم تبقى السيرة ويبقى التاريخ كالأرض العذراء، والمنجم البكر. نحن المسلمين!
لسنا أمة كالأمم تربط بينها اللغة، ففي كل أمة خيِّر وشرير.
ولسنا شعباً كالشعوب، يؤلف بينهم الدم، ففي كل شعب صالح وطالح، ولكننا جمعية خيرية كبرى، أعضاؤها كل فاضل من كل أمة، تقي نقي..
تجمع بيننا التقوى إن مصل الدم، وتوحِّد بيننا العقيدة، إن اختلفت اللغات، وتُدنينا الكعبة إن تناءت بنا الديار..
أليس في توجُّهِنا كل يومٍ خمس مرات إلى هذه الكعبة، واجتماعنا كل عام مرة في عرفات، رمزاً إلى أن الإسلام قومية جامعة، مركزها الحجاز العربية، وإمامها النبي العربي، وكتابها القرآن العربي؟
نحن المسلمين!
ديننا الفضيلة الظاهرة، والحق الأبلج.. لا حُجُب ولا أستار، ولا خفايا ولا أسرار.
هو واضح وضوح المئذنة، أفليس فيها ذلك المعنى؟
هل في الدنيا جماعة أو نِحلة تكرر مبادئها وتُذاع عشر مرات كل يوم، كما تُذاع مبادئ ديننا- نحن المسلمين- على ألسنة المؤذنين: أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
نحن المسلمين!
لا نهن ولا نحزن ومعنا الله.. ونحن نسمع كل يوم ثلاثين مرة هذا النداء العلوي المقدس، هذا النشيد القوي: الله أكبر..
البطولة سجية فينا، وحب التضيحة يجري في عروقنا.. لا تنال من ذلك صروف الدهر، ولا تمحوه من نفوسنا أحداث الزمان..
لنا الجزيرة التي يشوى على رمالها كل طاغ يطأ ثراها، ويعيش أهلها من جحيمها في جنات.
لنا الشام وغوطتها التي سُقيت بالدم، لنا فيها الجبل الأشم.. لنا العراق لنا (الرميثة) وسهول الفرات.. لنا فلسطين التي فيها جبل النار.
لنا مصر دار العلم والفن ومثابة الإسلام..
لنا المغرب كله، لنا ( الريف) دار البطولات والتضحيات.
لنا القسطنطينية ذات المآذن والقباب، لنا فارس والأفغان والهند وجاوة.
لنا كل أرض يُتلى فيها القرآن، وتصدح مناراتها بالأذان.
لنا المستقبل.. المستقبل لنا إن عُدنا إلى ديننا. نحن المسلمين!
 
------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
 
اختيار موقع الدرر السنية www.dorar.net
المصدر: كتاب (قصص من التاريخ) - علي الطنطاوي - المكتب الإسلامي -  ص 15.

السعادة - لفضيلة الشيخ علي الطنطاوي

يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحمل الواحد، فيشكو هذا ويتذمر؛ فكأنَّه حمل حملين، ويضحك هذا ويغنِّي؛ فكأنَّه ما حمل شيئًا.
 ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد، فيتشاءم هذا، ويخاف، ويتصور الموت، فيكون مع المرض على نفسه؛ فلا ينجو منه، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة؛ فتسرع إليه، ويسرع إليها.
ويُحكم على الرجلين بالموت؛ فيجزع هذا، ويفزع؛ فيموت ألف مرة من قبل الممات، ويملك ذلك أمره ويحكِّم فكره، فإذا لم تُنجه من الموت حيلته لم يقتله قبل الموت وَهْمُه.
وهذا (بسمارك) رجل الدم والحديد، وعبقري الحرب والسِّلْم، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقةً واحدة، وكان لا يفتأ يوقد الدخينة من الدخينة نهاره كله فإذا افتقدها خلَّ فكرُه، وساء تدبيره.
 وكان يومًا في حرب، فنظر فلم يجد معه إلا دخينة واحدة، لم يصل إلى غيرها، فأخَّرها إلى اللحظة التي يشتدُّ عليه فيها الضيق ويعظم الهمُّ، وبقي أسبوعًا كاملًا من غير دخان، صابرًا عنه أملًا بهذه الدخينة، فلمَّا رأى ذلك ترك التدخين، وانصرف عنه؛ لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة.
وهذا العلامة المؤرخ الشيخ الخضري أصيب في أواخر عمره بتَوَهُّمِ أن في أمعائه ثعبانًا، فراجع الأطباء، وسأل الحكماء؛ فكانوا يدارون الضحك حياءً منه، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود، ولكن لا تقطنها الثعابين، فلا يصدق، حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب، بصير بالنفسيات، قد سَمِع بقصته، فسقاه مُسَهِّلًا وأدخله المستراح، وكان وضع له ثعبانًا فلما رآه أشرق وجهه، ونشط جسمه، وأحسَّ بالعافية، ونزل يقفز قفزًا، وكان قد صعد متحاملًا على نفسه يلهث إعياءً، ويئنُّ ويتوجَّع، ولم يمرض بعد ذلك أبدًا.
ما شفِي الشيخ لأنَّ ثعبانًا كان في بطنه ونَزَل، بل لأن ثعبانًا كان في رأسه وطار؛ لأنه أيقظ قوى نفسه التي كانت نائمة، وإن في النفس الإنسانية لَقُوًى إذا عرفتم كيف تفيدون منها صنعت لكم العجائب.
تنام هذه القوى، فيوقظها الخوف أو الفرح؛ ألَمْ يتفق لواحد منكم أن أصبح مريضًا، خامل الجسد، واهِيَ العزم لا يستطيع أن ينقلب من جنب إلى جنب، فرأى حيَّة تقبل عليه، ولم يجد مَنْ يدفعها عنه، فوثب من الفراش وثبًا، كأنَّه لم يكن المريض الواهن الجسم؟ أو رجع إلى داره العصر وهو ساغب لاغب، قد هَدَّه الجوع والتعب، لا يبتغي إلا كُرْسِيًّا يطرح نفسه عليه، فوجد برقية من حبيب له أنه قادم الساعة من سفره، أو كتابًا مستعجلًا من الوزير يدعوه إليه؛ ليرقي درجته، فأحسَّ الخفة والشبع، وعدا عدوًا إلى المحطة، أو إلى مقرِّ الوزير؟
هذه القوى هي منبع السعادة تتفجر منها كما يتفجر الماء من الصخر نقيًّا عذبًا، فتتركونه وتستقون من الغدران الآسنة، والسواقي العكرة !
 
يا أيها القراء: إنكم أغنياء، ولكنكم لا تعرفون مقدار الثروة التي تملكونها، فترمونها؛ زهدًا فيها، واحتقارًا لها.
 
يُصاب أحدكم بصداع أو مغص، أو بوجع ضرس، فيرى الدنيا سوداء مظلمة؛ فلماذا لم يرها لما كان صحيحًا بيضاء مشرقة؟ ويُحْمَى عن الطعام ويُمنع منه، فيشتهي لقمة الخبز ومضغة اللحم، ويحسد من يأكلها؛ فلماذا لم يعرف لها لذتها قبل المرض؟
لماذا لا تعرفون النِّعم إلا عند فقدها؟
لماذا يبكي الشيخ على شبابه، ولا يضحك الشاب لصباه؟
لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت عنَّا، ولا نُبْصِرها إلا غارقة في ظلام الماضي، أو مُتَّشحةً بضباب المستقبل؟
كلٌّ يبكي ماضيه، ويحنُّ إليه؛ فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضيًا؟
 
أيها السادة والسيدات: إنا نحسب الغنى بالمال وحده، وما المال وحده؟ ألا تعرفون قصة الملك المريض الذي كان يُؤْتى بأطايب الطعام، فلا يستطيع أن يأكل منها شيئًا، لما نَظَر مِن شباكه إلى البستاني وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود، يدفع اللقمة في فمه، ويتناول الثانية بيده، ويأخذ الثالثة بعينه، فتمنَّى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانيًّا.
فلماذا لا تُقدِّرون ثمن الصحة؟ أَما للصحة ثمن؟
من يرضى منكم أن ينزل عن بصره ويأخذ مائة ألف دولار؟...
أما تعرفون قصة الرجل الذي ضلَّ في الصحراء، وكاد يهلك جوعًا وعطشًا، لما رأى غدير ماء، وإلى جنبه كيس من الجلد، فشرب من الغدير، وفتح الكيس يأمل أن يجد فيه تمرًا أو خبزًا يابسًا، فلما رأى ما فيه، ارتدَّ يأسًا، وسقط إعياءً، لقد رآه مملوءًا بالذهب !
وذاك الذي لقي مثل ليلة القدر، فزعموا، أنه سأل ربَّه أن يحوِّل كلَّ ما مسَّته يده ذهبًا، ومسَّ الحجر فصار ذهبًا؛ فكاد يجنُّ مِن فرحته؛ لاستجابة دعوته، ومشى إلى بيته ما تسعه الدنيا، وعمد إلى طعامه؛ ليأكل، فمسَّ الطعام، فصار ذهبًا وبقي جائعًا، وأقبلت بنته تواسيه، فعانقها فصارت ذهبًا، فقعد يبكي يسأل ربه أن يعيد إليه بنته وسُفرته، وأن يبعد عنه الذهب!
وروتشلد الذي دخل خزانة ماله الهائلة، فانصفق عليه بابها، فمات غريقًا في بحر من الذهب.
يا سادة: لماذا تطلبون الذهب وأنتم تملكون ذهبًا كثيرًا؟ أليس البصر من ذهب، والصحة من ذهب، والوقت من ذهب؟ فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة؟
كلَّفتني المجلة بهذا الفصل من شهر، فما زلت أماطل به، والوقت يمرُّ، أيامه ساعات، وساعاته دقائق، لا أشعر بها، ولا أنتفع منها، فكأنها صناديق ضخمة خالية، حتى إذا دنا الموعد ولم يبق إلا يوم واحد، أقبلت على الوقت أنتفع به، فكانت الدقيقة ساعة، والساعة يومًا، فكأنها العلب الصغيرة المترعة جوهرًا وتبرًا، واستفدت من كلِّ لحظة حتى لقد كتبت أكثره في محطة ( باب اللوق ) وأنا أنتظر الترام في زحمة الناس، وتدافع الركاب، فكانت لحظة أبرك عليَّ من تلك الأيام كلِّها، وأسفت على أمثالها، فلو أنِّي فكرت كلَّما وقفت أنتظر الترام بشيء أكتبه، وأنا أقف كل يوم أكثر من ساعة متفرِّقة أجزاؤها لربحت شيئًا كثيرًا.
ولقد كان الصديق الجليل الأستاذ الشيخ بهجة البيطار يتردد من سنوات بين دمشق وبيروت، يعلم في كلية المقاصد وثانوية البنات، فكان يتسلَّى في القطار بالنظر في كتاب ( قواعد التحديث) للإمام القاسمي، فكان من ذلك تصحيحاته وتعليقاته المطبوعة مع الكتاب.
 والعلامة ابن عابدين كان يطالع دائمًا، حتى إنه إذا قام إلى الوضوء أو قعد للأكل أمر من يتلو عليه شيئًا من العلم فأَلَّف (الحاشية).
والسَّرَخْسي أَمْلَى وهو محبوس في الجبِّ، كتابه (المبسوط) أَجَلَّ كتب الفقه في الدنيا.
 وأنا أعجب ممن يشكو ضيق الوقت، وهل يُضَيِّق الوقت إلا الغفلة أو الفوضى؛ انظروا كم يقرأ الطالب ليلة الامتحان، تروا أنَّه لو قرأ مثله لا أقول كلَّ ليلة، بل كلَّ أسبوع مرة لكان عَلَّامَة الدنيا، بل انظروا إلى هؤلاء الذين ألَّفوا مئات الكتب كابن الجوزي والطبري والسيوطي، والجاحظ، بل خذوا كتابًا واحدًا كـ(نهاية الأرب)، أو (لسان العرب)، وانظروا، هل يستطيع واحد منكم أن يصبر على قراءته كله، ونسخه مرة واحدة بخطِّه، فضلًا عن تأليف مثله من عنده؟
والذهن البشري، أليس ثروة؟ أما له ثروة؟ أما له ثمن؟ فلماذا نشقى بالجنون، ولا نسعد بالعقل؟ لماذا لا نمكِّن للذهن أن يعمل، ولو عمل لجاء بالمدهشات؟
 لا أذكر الفلاسفة والمخترعين، ولكن أذكِّركم بشيء قريب منكم، سهل عليكم هو الحفظ، إنكم تسمعون قصة البخاري لمَّا امتحنوه بمائة حديث خلطوا متونها وإسنادها، فأعاد المائة بخطئها وصوابها، والشافعي لمَّا كتب مجلس مالك بريقه على كفه، وأعاده من حفظه، والمعرِّي لما سَمِع أرْمَنِيَّيْنِ يتحاسبان بِلُغَتهما، فلما استشهداه أعاد كلامهما وهو لا يفهمه، والأصمعي وحمَّاد الراوية وما كانا يحفظان من الأخبار والأشعار، وأحمد وابن معين وما كانا يرويان من الأحاديث والآثار، والمئات من أمثال هؤلاء؛ فتعجبون، ولو فكَّرتم في أنفسكم لرأيتم أنكم قادرون على مثل هذا، ولكنكم لا تفعلون.
انظروا كم يحفظ كلٌّ منكم من أسماء الناس، والبلدان، والصحف، والمجلات، والأغاني، والنكات، والمطاعم، والمشارب، وكم قصة يروي من قصص الناس والتاريخ، وكم يشغل من ذهنه ما يمرُّ به كلَّ يوم من المقروءات، والمرئيات، والمسموعات؛ فلو وضع مكان هذا الباطل علمًا خالصًا، لكان مثل هؤلاء الذين ذكرت.
أعرف نادلًا كان في (قهوة فاروق) في الشام من عشرين سنة اسمه (حلمي) يدور على رواد القهوة- وهم مئات- يسألهم ماذا يطلبون: قهوة، أو شايًا، أو هاضومًا (كازوزة أو ليمونًا) والقهوة حلوة ومرة، والشاي أحمر وأخضر، والكازوزة أنواع، ثم يقوم وسط القهوة، ويردد هذه الطلبات جهرًا في نَفَسٍ واحد، ثم يجيء بها، فما يخرم مما طلب أحد حرفًا !
فيا سادة: إن الصحة والوقت والعقل، كلُّ ذلك مال، وكلُّ ذلك من أسباب السعادة لمن شاء أن يسعد.
وملاك الأمر كلِّه ورأسه الإيمان، الإيمان يُشبع الجائع، ويُدفئ المقرور، ويُغني الفقير، ويُسَلِّي المحزون، ويُقوِّي الضعيف، ويُسَخِّي الشحيح، ويجعل للإنسان من وحشته أنسًا، ومن خيبته نُجحًا.
وأن تنظر إلى من هو دونك، فإنك مهما قَلَّ مُرَتَّبك، وساءت حالك أحسن من آلاف البشر ممن لا يقلُّ عنك فهمًا وعلمًا، وحسبًا ونسبًا.
 وأنت أحسن عيشة من عبد الملك بن مروان، وهارون الرشيد، وقد كانا مَلِكَي الأرض.
فقد كانت لعبد الملك ضرس منخورة تؤلمه حتى ما ينام منها الليل، فلم يكن يجد طبيبًا يحشوها، ويلبسها الذهب، وأنت تؤلمك ضرسك حتى يقوم في خدمتك الطبيب.
وكان الرشيد يسهر على الشموع، ويركب الدوابَّ والمحامل، وأنت تسهر على الكهرباء، وتركب السيارة، وكانا يرحلان من دمشق إلى مكة في شهر، وأنت ترحل في أيام أو ساعات.
فيا أيها القراء: إنكم سعداء ولكن لا تدرون، سعداء إن عرفتم قدر النعم التي تستمتعون بها، سعداء إن عرفتم نفوسكم وانتفعتم بالمخزون من قواها... سعداء إن طلبتم السعادة من أنفسكم لا مما حولكم، سعداء إن كانت أفكاركم دائمًا مع الله، فشكرتم كل نعمة، وصبرتم على كل بَلِيَّة، فكنتم رابحين في الحالين، ناجحين في الحياتين.
والسلام عليكم ورحمة الله.
 
المصدرhttp://dorar.net/art/965 :من كتاب صور وخواطر للشيخ علي الطنطاوي، دار المنارة، (ص17) بتصرف.

Sunday, February 5, 2012

الثقة بالله في الأزمات

إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره , و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مُضل له و من يضلل فلا هادي له , و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمداً عبده و رسوله ، أما بعد :

فإن المسلم يحتاج كثيرا في هذا الزمان إلى الثقة بالله سبحانه و تعالى ، الثقة بالله يا عباد الله ، الثقة بالله و التوكل على الله .

فلماذا يثق المؤمن بربه و يتوكل عليه ؟
- لأن الله سبحانه و تعالى على كل شيء قدير

- و لأن الأمر كله لله ، قل إن الأمر كله لله ، "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (يس 82)

- لأنه تعالى يورث الأرض من يشآء من عباده كما قال "....إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ...."(الأعراف 128)

- لأن الأمور عنده سبحانه كما قال عز و جل ".....وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ" (البقرة 210) و ليس إلى غيره

- لأنه شديد المحال فهو عزيز لا يُغلب كما قال تعالى ".......وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ" (الرعد 13)

- لأنه سبحانه و تعالى له جنود السموات و الأرض فقال عز و جل "وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...." (الفتح 7)

- جمع القوة و العزة "......وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا" (الأحزاب 25)

- و قهر العباد فأذلهم ، فهم لا يخرجون عن أمره و مشيئته "......هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ" (الزمر 4)

- "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" (الذاريات58) فهو ذو القوة و هو المتين سبحانه و تعالى

- و هو عز و جل يقبض و يبسط

- و هو يُؤتي مُلكه من يشآء "وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير"ٌ (آل عمران 189)

- و هو سبحانه و تعالى الذي يضُر و ينفع "وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ......" (الأنعام 17)

و لذلك لمّا قام أعداء الله على النبي صلى الله عليه و سلم فأجمعوا مكرهم و أمرهم فإن الله عز و جل أذهب ذلك فقال "......وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" (الأنفال 30) و قال "قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ...." (النحل 26) أتى الله بنيانهم من القواعد ، فإذاً المكر بمن مكر بالله ، فالله يمكر به ، و هو يخادع عز و جل "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ...." (النساء 142) و هو الذي يرد بأس المشركين فقال الله عز و جل ".......عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا" (النساء 84) و لذلك فإن النبي صلى الله عليه و سلم لمّا واجه الأعداء في القتال قال الله سبحانه و تعالى ".......عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا" (النساء 84) و قال "......وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ" (البقرة 253) فهو الذي يقدّر الاقتتال و عدم الاقتتال "......فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ" (المائدة 52) و الله عز و جل قد أخبر نبيه صلى الله عليه و سلم بأنه القادر على إمضاء القتال أو وقفه "........كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ........" (المائدة 64) و لذلك فإنه عليه الصلاة و السلام لا يخاف إلا الله "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ......" (الزمر 36).

و الله عز و جل سبحانه و تعالى يفعل ما يشاء و يقدّر ما يشاء و لذلك كانت الثقة به و التوكل عليه واجبا ، فترى موسى عليه السلام لمّا جاء فرعون و جنوده و أجمعوا كيدهم و بغيهم و ظُلمهم و عدوانهم فأُسقط في يد ضعفاء النفوس و قال بعض من مع موسى عليه السلام إنا لمُدرَكون ، لا محالة هالكون ، لا فائدة ، لا نجاة ، محاط بنا ، ستقع الكارثة ، سيُدركنا فرعون ، سيأخذنا ، سيقتلنا ، سننتهي ، قال موسى الواثق بربه : كلّا إن معي ربي سيهدين ، الثقة بالله عز و جل

يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، إنه الله عز و جل ، و هي التي قالها النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة الحديبية : إنه ربي و لن يضيّعني ، و هي التي قالها الصحابة الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فما الذي حصل ؟ ما زادهم ذلك إلا إيمانا و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله و فضل لم يمسسهم سوء و إتبعوا رضوان الله ، و لذلك قال تعالى بعدها "إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ..... يعني يخّوفكم بأوليائه و مناصريه ......فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (آل عمران 175).

لقد لفت علماء الإسلام و منهم ابن القيم رحمه الله إلى قضية خطيرة يقع فيها كثير من المسلمين و هي سوء الظن بالرب عز و جل ، يظنون أن الله لا ينصر شريعته و لا ينصر دينه ، و أن الله كتب الهزيمة على المسلمين أبد الدهر و أنه لا قيام لهم ، إذاً فلماذا أنزل الله الكتاب ؟ لماذا أرسل الرسول صلى الله عليه و سلم؟ لماذا شرع الدين ؟ لماذا جعل الإسلام مهيمناً على كل الأديان ؟ لماذا نُسخت كل الأديان السابقة بالإسلام إذا كان الإسلام لن ينتصر ؟

و لذلك قال عز و جل "مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا... و ليس في الآخرة فقط .....وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ..... فليمدد بسبب يعني بحبل ، إلى السماء يعني إلى سقف بيته ، ثم ليقطع يعني يختنق به ، يقتل نفسه ......فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ" (الحج 15) قال العلماء في تفسير هذه الآية : من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً صلى الله عليه و سلم في الدنيا و الآخرة فليمدد بحبل يخنق به نفسه ، يتوصل إلى هذا الحبل الذي يشنق به نفسه إن كان ذلك غائظه لأن الله ناصر نبيه لا محالة ، قال تعالى "إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ" (غافر 51-52) "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" (الصافات 171-173) ، و قال تعالى "إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ....." (المجادلة 5) ، وفي الآية الأخرى "إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي....." (المجادلة 20-21) ، فإذاً إذا تحققت شروط النصر فلابد أن ينصر الله الذين حققوا الشروط ، و إذا هُزموا فإنما يُهزموا لتخلّف تحقق الشروط.

و هذه الأمة تتربى بأقدار الله التي يجريها عليها ، و النبي صلى الله عليه و سلم قد علّمنا من سيرته كيف ينصر ربه فينصره "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" (محمد 7) "إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" (آل عمران 160).

و الله عز و جل فعّال لِما يريد ، والله سبحانه و تعالى كتب المقادير قبل أن يَخلق السماوات و الأرض بخمسين ألف سنة ، ولذلك فإن كل ما يقع و يحدُث مكتوب عنده سبحانه و تعالى ، والله يعلم و أنتم لا تعلمون ، و قد يظن المسلمون بشيء شراً فإذا هو خير لقصر النظر و عدم معرفة الغيب ، و ما كان الله ليطلعكم على الغيب و قال تعالى ".....لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ......" (النور 11) و قال سبحانه و تعالى "....وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ...." (البقرة 216) ، و هذه القاعدة العظيمة التي جرت عبر التاريخ : "......إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...." (الرعد 11) و لذلك فإنه لابد من الثقة بالله عز و جل ، و لابد من اعتقاد أن القوة جميعا لله سبحانه و تعالى ، و لا يجري في الكون إلا ما يريد ، و لا يجري شيء و لا يقع إلا لحِكَم يُريدها سبحانه و لا يَدري الإنسان ماذا يترتب على الأمور و لذلك فلابد أن يوقن المسلمون بربهم ، لابد أن يكونوا على صلة بربهم معتمدين عليه متوكّلين ، يطلبون منه القوة و المَدد لأنه سبحانه و تعالى مالك القوة جميعاً و هو الذي يمنح أسبابها من يشاء عز و جل ، إن المسلمين في زمن الضعف يجب عليهم أن يستحضروا دائما الثقة بالله و التوكل عليه و استمداد القوة منه و الركون إليه و أنه عز و جل ينصر من نصره ، فإذا التجأ العبد إليه فقد أوى إلى ركن شديد ، اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام و المسلمين و أن تُعلي كلمة الدين و نسألك سبحانك و تعالى أن تجعل رجزك و عذابك على القوم الكافرين ، أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين و لا عدوان إلا على الظالمين و أشهد أن الله القوي الملك الحق المبين و أشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه و على آله و صحبه أجمعين ، عباد الله ،

لقد كان من ثقة النبي صلى الله عليه و سلم بربه أنه كان دائما يعتقد بنُصرة الله له ، و أنه لن يخذله و لن يتخلى عنه سبحانه و تعالى، و كان بعض الصحابة يصابون بإحباط و يأس من كثرة رؤيتهم لقوة الكفار و ضعفهم هم و قلة عددهم فكان النبي عليه الصلاة و السلام يُذَكّر أصحابه في أحلك المواقف بأن المستقبل للإسلام و لذلك لمّا جاء خبّاب بن الأرّت إلى النبي صلى الله عليه و سلم يشكو له الشدة التي أصابته و أصابت أصحابه المسلمين في مكة ، لقد حُرق ظهره ، لقد كَوته مولاته الكافرة بأسياخ الحديد المحمّاه فلم يطفئها إلا وَسخ شحم ظهره لمّا سال عليها و هو يقول : ألا تدعو لنا ، ألا تستنصر لنا ، فيقول النبي صلى الله عيه و سلم [و الله ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت (في ذلك الطريق الخطر المخوف) لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون] أوردها في أحلك الظروف في مكة ، و لمّا ذهب هو و صاحبه في طريق الهجرة أدركهما سُراقة بن مالك على فرس ، إنهما مُطاردان ، إنهما في حال حرجة جداً ، و يدركهما سُراقة و لكن تسيخ قدما أو يدا الفرس إلى الركبتين فيقول النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك الموقف الحرج و الظرف الحالك لسُراقة [كيف بك إذا لبست سواري كسرى] ما قالها بعد إنتصار بدر مثلاً ، أو بعد فتح مكة ، قالها و هو مُطارد ، مطارد و سُراقة وراءه في الظرف الحرج ، و الكفار يتربصون ، "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ...." (الأنفال 30) يطلبون دم محمد صلى الله عليه و سلم و وضعوا الجائزة العظيمة ثم يقول [كيف بك إذا لبست سواري كسرى] شيء بعيد جداً عن الذهن ، شيء بعيد للغاية لا يُمكن أن يفكر فيه سُراقة أبداً في تلك اللحظة.

لمّا حاصر الأحزاب المدينة و أجتمعوا عليها و تألّبوا ، جمعوا كيدهم بعشرة آلاف ، المسلمون أقل عدداً و عدةً و في ذلك القول و الليل ، الظلمة و الريح الباردة الشديدة ، يعملون بأيديهم في الجوع ، في الظروف القاسية جداً هذا الخوف المُدلهمّ ينزل ليكسر الصخرة و يقول بعد الضربة الأولى [الله أكبر ، أُعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأُبصر قصورها الحمراء الساعة] ضربة أخرى [أُعطيت مفاتيح فارس ، و الله إني لأُبصر قصر المدائن أبيض] الضربة الثالثة [أُعطيت مفاتيح اليمن ، و الله إني لأُبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة] ، متى قالها في أحلك الظروف و أسوأها و قد بلغت القلوب الحناجر و يظنون بالله الظنونا ، أبتُلي المؤمنون و زُلزِلوا زِلزالاً شديدا ، سيأخُذهم الكفار يعبرون الخندق ، سيحصرون ، سيموتون من الجوع تحت الحِصار ، و لكن يردّ الله الذين كفروا بغيظهم بريح لم تُتوقع و بملائكة تنزل.

أيها الأخوة إن النبي صلى الله عليه و سلم لمّا أخبرنا في الأحاديث الصحيحة أن المستقبل للإسلام ، يجب أن نُؤمن بذلك ، لا يجوز إطلاقا أن نشك فيه "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" (التوبة 33)(الصف 9) و لو كره الكفار لابد ، و قال لأصحابه عليه الصلاة و السلام [إن الله زوى لي الأرض (جمعها و ضمها فنظر إليها عليه الصلاة و السلام نظرة حقيقية بعينه حقيقية) فرأيت مشارقها و مغاربها و إن أمتي سيبلُغ مُلكها ما زُوي لي منها] فسيبلغ إذاً مُلك هذه الأمه الليل و النهار و قال عليه الصلاة و السلام [ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت ‏مدر ‏ولا ‏‏وبر (لا بيت حجر في البلد و لا بيت وبر و شعر في البادية) ‏إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يُعز به الإسلام وذلاً يُذل الله به الكفر] و هذا أمر لم يتحقق بعد فلابد أن يتحقق كما جاء في الحديث الصحيح الآخر [أن عبدالله بن عمرو بن العاص قال ‏بينما نحن حول رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ‏نكتب (أي نكتُب حديثه) إذ سُئل رسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم ‏‏أنتين تُفتح أولاً‏ ، قسطنطينية ‏أو ‏رومية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مدينة‏‏ هرقل‏ ‏تُفتح أولاً ‏يعني ‏‏قسطنطينية] (رواه الإمام أحمد و غيره و هو حديث صحيح) ، فروما لم تفتح بعد فلابد أن تفتح لأن النبي عليه الصلاة و السلام أخبر بذلك قال صلى الله عليه و سلم [‏تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا ‏‏عاضا ‏ ‏فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن ا ثم تكون ملكا ‏‏جبرية ‏فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت] (رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى و هو حديث صحيح) ، و قال عليه الصلاة و السلام [‏لا تقوم الساعة حتى تعود أرض ‏‏العرب ‏مروجا ‏ فإذاً هذه الأحاديث لابد أن تتحقق لأنها خبر من الغيب ، من الله سبحانه و تعالى ، ولابد أن يعتقد المسلمون بأن المستقبل للإسلام قطعاً ، كيف و قد أفلس الغرب و الشرق من القيم و المفاهيم ؟ كيف و قد صاروا في أمر مريج ؟ فما هو الدين المرشّح للانتشار و الظهور و أن يكون هو الذي يقتنع به البشر و يأتون إليه ؟ هو أسرع دين في العالم انتشارا ، الآن في وقت ضعف المسلمين هو أسرع الأديان انتشارا ، فكيف بغيره من الأوقات ؟

و لكن يا عباد الله يجب على المسلمين أن يكونوا دائماً و خصوصاً في وقت الفتن متعلقين بربهم ، و أن يعرفوا أن الله يميّز الأمور ، يميّز الناس ، و أنه سبحانه و تعالى يُجري من الأقدار ما يجعلهم ينقسمون في النهاية إلى قسمين كما قال عليه الصلاة و السلام [لمّا ذكر الفتن فأكثر في ذكرها حتى ذكر فتنة الأحلاس فقال قائل يا رسول الله وما فتنة الأحلاس قال ‏هي هرب وحرب (يعني يفر بعضهم من بعض لِما بينهم من العداوة و المحاربة و كذلك نهب يأتي يأخذ مال الآخر و يتركه بلا شيء) قال ثم فتنة السرّاء (المراد بالسرّاء النعماء التي تسرّ الناس من الصحة و الرخاء و العافية من البلاء و الوباء و أُضيفت إلى السرّّاء لأنها السبب في وقوعها فقال فتنة السرّاء ، تحدث الفتنة بسبب السرّاء ، ما هي الفتنة السبب في وقوعها السرّاء ؟ إرتكاب المعاصي بسبب كثرة النعم ، بسبب كثرة التنعم فهذه هي السرّاء) ثم قال صلى الله عليه و سلم ثم ‏‏يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع (أي أنه هذا الرجل ليس بأهل في مظهره أن يجتمع عليه الناس و إنما هو مثل الضلع على الورك فهو غير خليق أن يكون للناس رأسا و مع ذلك يجتمعون عليه) قال ثم ‏فتنة ‏الدهيماء ‏‏لا تدع أحداً من الأمة إلا ‏لطمته لطمة (و هذه فتنة عظيمة و صامّة عمياء ذكرها النبي صلى الله عليه و سلم الدهيماء ، تدهم فهي داهية لا تدع أحداً إلا ‏لطمته لطمة فأُصيب بمحنة أو ببليّة بسبب فتنة الدهيماء) قال عليه الصلاة و السلام ‏فإذا قيل إنقضت (أي إنتهت المشاكل) تمادت يُصب لرجل فيها مؤمناً ‏ويُمسي كافراً حتى يصير الناس إلى‏ ‏فسطاطين (تسلسُل زمني و خبر غيبي من النبي عليه الصلاة و السلام ، فتنة لا تترك أحداً إلا مسّته كلما قال الناس إنتهت تمادت ، ماذا يحدث من جرائها ؟ تبديل سريع في المواقف ، تبديل سريع في العقائد ، تغيّر فظجداً ، إنقلابات سريعة جداً في عقائد الناس ، يُصبح الرجل فيها مؤمناً ‏و يُمسي كافراً ، في الصباح مؤمن ، في المساء كافر و العكس ، حتى في النهاية يحدث التمايُز ، و هذا ما يريده الله ، ليميز الله الخبيث من الطيب لابد من تمايز) فقال حتى يصير الناس إلى‏ ‏فسطاطين‏ ‏فسطاط‏ ‏إيمان لا نفاق فيه‏ ‏وفسطاط‏ ‏نفاق لا إيمان فيه فإذا كان ‏ذالكم فانتظروا‏ ‏الدجال‏ ‏من يومه‏ ‏أو من ‏غده] (إذا حصل التمايز و إنقسموا إلى المعسكرين فانتظروا‏ ‏الدجال‏.

عباد الله إن هذه الأحاديث و هذه النصوص الشرعية يجب أن يكون لها في القلب موقع ، يجب الاعتقاد بها ، لماذا أُخبرنا بها ؟ لنستعدّ ، لنأخُذ الأُهبة ، نستعدّ يا عباد الله بالعمل و الإيمان.

نسأل الله سبحانه و تعالى أن يثبّتنا و إياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة ، نسأل الله عز و جل أن يجعلنا و إياكم على الإيمان و الدين ثابتين ، اللهم أحينا مسلمين و توفنا مؤمنين و ألحقنا بالصالحين غير خزايا و لا مفتونين ، اللهم نسألك النصر للإسلام و أهله يا رب العالمين ، اللهم أنصر المسلمين ، أنصر المجاهدين في سبيلك إنك على كل شيء قدير ، اللهم أذل اليهود و الصليبيين ، و أقمعهم و أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين ، اللهم أجعل فتح المسلمين قريبا و نصرهم عزيزا ، اللهم أخرج اليهود من بيت المقدس أذلة صاغرين ، أخرجهم من بيت المقدس أذلة صاغرين و أكتب لنا النصر العاجل عليهم يا رب العالمين ، سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين.
http://www.islamdoor.com/k13/THEKAH.htm

كيف نحصن أنفسنا من الفتن

=الخطبة الأولى

الحمد لله نحمده في السراء والضراء ، ونشكره وحده على النعماء والبأساء ، لا يحمد على مكروه سواه ، ولا يقصد في الشدائد سواه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. المطلع على سرائر القلوب .. العليم بخفيات النوايا والغيوب ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله لم يتزعزع لحظة عن يقينه ، ولم يداهن يوماً في سبيله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ، قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) .
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أشراط الساعة ظهور الفتن العظيمة التي يلتبس فيها الحق بالباطل فتزلزل الإيمان حتى يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً .. كلما ظهرت فتنة قال المؤمن : هذه مهلكتي ، ويظهر غيرها فيقول : هذه ، هذه .. ولا تزال الفتن تظهر في الناس إلى أن تقوم الساعة .
ومن الصحابة - رضوان الله عليهم – اهتم حذيفة بن اليمان بأحاديث الفتن ، وكان يقول عن نفسه : (( إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسألون عن الخير ، وكنت أسأل عن الشر مخافة أن أدركه )) .
ونحن في عصر أخذت أمواجها تتلاطم بألوان من الأحوال العجيبة.. موجات فتن تترى ، ومصائب تتوالى ، وتقلبات وتغيرات تلوث العقائد والأفكار والأخلاق .. تسعر القوم شراً كلما تعاظم الناس فتنة تلتها أعظم منها .. فتن الشهوات المحرقة ، وفتن الشبهات المضلة ، وفتن تضارب الآراء سيما عند تفاوت المشارب.
فتن هذا الزمان لا تموج بالناس فحسب .. بل بهم وبأفكارهم ، وربما كان موج الأفكار والحقائق سمة فتن هذا العصر .. فترى الناس في الفتن كالورق اليابس تسفه الريح يمنة ويسرة .. نعم للفتن ضحايا تصرعهم ، وفي ذلك يقول الوزير ابن هبيرة : (( احذروا مصارع العقول عند التهاب الشهوات )) .
ويقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : (( إياكم والفتن لا يشخص إليها أحد .. فوالله ما شخص فيها أحد إلا نسفته كما ينسف السيل الدِمْن )) .
لقد حذَّر الله الأمة المسلمة إن هي خالفت ربها ونبيها وبعدت عن شريعتها أن يفتنها ، قال تعالى : (( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )) ، وهذه الفتنة عامة تشمل مختلف أنواع العقوبات .. كانتشار القتل فيما بينهم ، أو الزلازل والبراكين ، أو تسلط السلطان الجائر عليهم ، أو ظهور أنواع من الأمراض ، أو الفقر ، أو الشدة في الحياة ، إلى غير ذلك .
والفتنة إذا نزلت فإنها تعم الجميع فلا يستثنى منها أحد ؛ لقوله تعالى : (( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة )) ، يقول المفسرون في معناه : (( واحذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصر على الظالمين خاصة ، بل تتعدى إليكم جميعاً وتصل إلى الصالح والطالح )) ، أما الطالح فهو عقوبة لذنبه ، وأما الصالح فلأنه سكت ولم ينكر على الظالم ظلمه .
الفتن خطرها عظيم ، وشرها مستطير .. تهلك الحرث والنسل وتأتي على الأخضر واليابس.. تحير العقلاء ، وترمل النساء وتيتم الأطفال ، وتسيل أنهار الدماء ، وتنزل الويلات والنكبات بالمجتمعات التي تغشاها .. نار وقودها الأنفس والأموال ، ومصير أهلها ومآلهم – عياذاً بالله – شر مآل .
وأعظم الفتن ما كان في الدين .. يرى المرء أمامه سبلاً متشعبة ، وفتناً مترادفة .. لا تزلزل وجدان الإنسان فحسب ، لكنها تفعل فعلها في جعل حياته تضطرب مهما تحصن .. ويبقى المرء في حيرة من أمره ، وخشية من عاقبته .
هناك من تصيبه حالة من اليأس القاتل ، وآخرون يدفنون أنفسهم على هامش الحياة ، وصنف يلعب الشيطان برأسه ، ويجلب على نفسه الوبال ؛ نتيجة فهم قاصر ، أو نقل كاذب ، أو غرض فاسد ، أو هوى متبع ، أو عمى في البصيرة وفساد في الإرادة ، قال تعالى : (( والفتنة أكبر من القتل )) ؛ لذا عنيت الشريعة بموضوع الفتن ، ووضعت أمام المسلم معالم واضحة يهتدي بها ليخرج غير مسخط ربه عليه .. يقول الحسن البصري – رحمه الله - : (( الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم ، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل )) .
الفتن سنة ربانية ماضية لا تتبدل كما في قوله تعالى : (( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون )) كتبها الله عز وجل على عباده لحكم عظيمة ، ومنها : تمحيص الصف المسلم .. فالدعوة ينضوي تحت لوائها الصادق والكاذب ، والمتجرد والنفعي .. وطريق الدعوة يأبى المهازيل والممثلين دور الأصفياء ولا صفاء ، وفي الفتن تنكشف حقائق النفوس .. فالذي يرصد مصلحته ومنفعته ولا يعنيه حق ولا باطل .. عبد الدرهم والدينار .. لا يكون أمثال هؤلاء أصحاب مبادئ وحملة أمانات .. والفتن تظهر خبايا نفوسهم لتعرف الأمة قدرهم فتنبذهم .
وصنف من الناس في الفتن تقوى رجولته ، وتسمو همته ، ويستدرك ضعفه فيزداد صلابة لدور أكبر ، ومهمة أجل وأكرم ، قال تعالى : (( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون )) .. كم من أناس يظن أنهم سيثبتون في الفتن فلا يثبتون ، وأناس يظن أنهم لن يثبتوا فيثبتون .
الفتن تنساب لمن لا يتوقاها انسياب السيل إلى منحدره ، يقول عليه الصلاة والسلام : (( سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ )) أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .. أي من تطلع إليها وتعرض لها وأتته .. وقع فيها .
لذا يرنو المسلم إلى تبين الأسباب المعينة على مواجهة الفتن ليعد للأمر عدته ، ويأخذ أهبته، ويحصن النفس من الإنزلاق ، ومن ذلك ؛ إقبال المسلم على كتاب ربه بقوله وعمله واعتقاده ، تعلماً وتعليماً ، تلاوة وتدبراً .. ففيه العصمة لمن اعتصم به ، والثبات لمن طلبه فيه ، قال تعالى : (( فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى))، وقال : (( قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا )) ، وقال : (( وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك )) .
السلاح الأول لرفع الفتن عن الأمة ؛ إتباع هدى الله .. وفي ظل هذا الاتباع يتربى المسلمون ، ويتولد سلاح العزائم ، وتتحد الأمة تحت راية لا إله إلا الله .
لا ينجي من الفتن إلا تجريد اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتحكيمه في دق الدين وجله ، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله ، حقائقه وشرائعه .
العلم المخلص في تحصيله ، المتقى الله في تطبيقه ؛ نورٌ يضيء الطريق إذا ادلهمت الخطوب ، وتشابكت الدروب ، وأظلمت بالناس الفتن ، قال تعالى: (( أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها )) .
لا حول ولا قوة للعبد إلا بالله ؛ فهو المثبت والمعين ، ولولاه ما رفع المسلم قدماً ولا وضع أخرى ، ولا ثبت على الخير لحظة واحدة .. فاللجوء إلى الله بالدعاء من أهم الأسباب .. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عظيم الشعور بالافتقار إلى ربه ، وكان صلى الله عليه وسلم يكثر في دعائه أن يقول : ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ )) أخرجه الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه ، وكان صلى الله عليه وسلم يكثر الاستعاذة بالله من الفتن ، ويدعو أصحابه لذلك : (( تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )) أخرجه مسلم من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه .
إصلاح النفس وتزكيتها بالطاعة والعبادة من أسباب التثبيت ، قال تعالى : (( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً )) .
الأعمال الصالحة مصاد للفتن ووقاية منها ، وبها يدخر المسلم رصيداً من الخير في الرخاء .. فإذا ما نزلت الفتن كانت النجاة بفضل الله تعالى ، يوضح هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا )) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
لقد وجه القرآن الكريم بالصبر والتقوى لمواجهة الكيد ، والتحصين من الفتن ، قال تعالى : (( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور )) .
يوسف عليه السلام نجاه الله تبارك وتعالى من الفتن بالإخلاص ، قال تعالى : (( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين )) .
وأهل الكهف نجاهم الله وحماهم حين لجئوا إليه سبحانه : (( ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً )) .
إن دفاع الله سبحانه وتعالى عنا وحمايته لنا من الفتن والمكائد إنما يكون على قدر إيماننا وعبوديتنا ، يقول تعالى : (( أليس الله بكاف عبده )) ، وكان السلف يقولون : (( على قدر العبودية تكون الكفاية )) ، ويقول ابن القيم – رحمه الله تعالى – في قوله تعالى : ((إن الله يدافع عن الذين آمنوا )) وفي قراءة : (( يدفع )) يقول رحمه الله : (( فدفعه سبحانه ودفاعه عنهم بحسب إيمانهم وكماله ، ومادة الإيمان وقوته بذكر الله تعالى ، فمن كان أكمل إيماناً وأكثر ذكراً كان دفع الله تعالى عنه ودفاعه أعظم ، ومن نقص نقص )) أي من نقص إيمانه نقص الدفع والدفاع عنه.
ورمضان موسم خير قادم ، وهو فرصة سانحة لنقبل على ربنا ونغترف من بحر الخيرات ، ونزيد من عبوديتنا وطاعتنا في زمن الفتن لتتحقق حماية الله لنا ودفعه ودفاعه عنا .. والإنسان محكوم عليه بالوبال والخسران ما لم يسلك طريق الإيمان والإحسان ، ويصبر على طريق الهدى ، قال تعالى : (( والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر )) .
قتادة بن دعامة – رحمه الله – أحد التابعين عاصر فتنة من الفتن ، ويضع بين يدي الأمة نتائجها فيقول : (( قد رأينا والله أقواماً يسارعون إلى الفتن وينزعون فيها ، وأمسك قوم عن ذلك هيبة لله ومخافة منه ، فلما انكشف إذا الذين أمسكوا أطيب نفساً وأثلج صدوراً وأخف ظهوراً من الذين أسرعوا إليها .. وصارت أعمال أولئك حزازات على قلوبهم كلما ذكروها ، وأيم الله ! لو أن الناس كانوا يعرفون منها إذ أقبلت ما عرفوا منها إذا أدبرت لعقل فيها جيل من الناس كثير )) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية


الحمد لله الذي جعل شهر رمضان سيد الشهور ، وضاعف فيه الحسنات والأجور ، أحمده سبحانه وأشكره إنه غفور شكور ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها الفوز بدار القرار والسرور ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أشرف آمر ومأمور ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم النشور .
أما بعد :
فاتقوا الله حق التقوى ، وراقبوه في السر والنجوى .
بعد أيام قلائل يبشر المؤمنون – بإذن الله – بشهر رمضان الذي يفتح الله فيه أبواب الجنة ، ويغلق أبواب النار .. بشهر لا تحصى فضائله، ولا يحاط بفوائده .. والأمة بحاجة إلى هذا الموسم ؛ لينسلخوا منه بعد تمامه مجلوّة قلوبهم ، منوّرة بصائرهم ، قوية عزائمهم .. قد محو عن إراداتهم الوهن والتردد ، ودفعوا عن أنفسهم الحيرة والفتور ، وغذوا إيمانهم بالقوة والنور .
يستقبل رمضان بتهيئة القلوب ، وتصفية النفوس ، وتطهير الأموال ، والتفرغ من زحام الحياة .
أعظم مطلب في هذا الشهر : إصلاح القلوب ، فالقلب الذي ما زال مقيماً على المعصية يفوّت خيراً عظيماً ، فرمضان هو شهر القرآن ، والقلوب هي أوعية القرآن ، ومستقر الإيمان ، فكيف بوعاء لوّث بالآثام كيف يتأثّر بالقرآن ؟
ويستقبل رمضان بتهيئة النفوس وتنقيتها من الضغائن والأحقاد التي خلخلت العرى وأنهكت القوى ، ومزّقت المسلمين شرّ ممزّق ، فالذي يطلّ عليه رمضان عاقاً لوالديه ، قاطعاً لأرحامه ، هاجراً لإخوانه ، أفعاله قطيعة ، دوره في المجتمع النميمة، هيهات .. هيهات .. أن يستفيد من رمضان قال تعالى : (( فَاتـَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيـْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولـَهُ إنْ كُنـْتُمْ مُؤْمِنِينَ )) .
ومن حكم رمضان أن يتفاعل المسلم مع إخوانه في شتى البقاع ، ويتجاوب مع نداءات الفقراء والضعفاء، متجاوزاً بمشاعره كل الفواصل، متسلقاً بمبادئه كل الحواجز ، يتألم لآلامهم ، يحزن لأحزانهم ، يشعر بفقرائهم .
ويستقبل رمضان بتطهير الأموال من الحرام ، فما أفظعها من حسرة وندامة ، أن تلهج الألسن بالدعاء ولا استجابة ، وربنا تبارك وتعالى يقول : (( وَإِذَا سَأَلـَكَ عِبَادِي عَنـِّي فَإِنـِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلـْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلـْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلـَّهُمْ يَرْشُدُونَ)) .

ألا وصلوا وسلموا - عباد الله – على رسول الهدى ...
http://www.a2ma.net/vb/At671.html

Thursday, February 2, 2012

معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لغير المسلمين - من المطوية الفائزة للكاتب عبد العزيز الشامي

إن الذي ينظر إلى الرسالة المحمدية يجدها قد حفظت كرامة الإنسان، ورفعت قدره، فالناس بنو آدم سواء المسلم وغير المسلم، وقد كرم الله بني آدم جميعًا؛ فقال في قرآنه: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } (الإسراء: 70) ؛ فالجميع لهم الحقوق الإنسانية كبشر أمام ربهم، وإنما يتميز الناس عند ربهم بمدى تقواهم وإيمانهم وحسن أخلاقهم، وكم كان حرص محمد صلى الله عليه وسلم على إبراز هذا المعنى الإنساني واضحًا في تعاملاته وسلوكياته مع غير المسلمين!

ففي الحديث الثابت قول محمد صلى الله عليه وسلم : «إذا رأيتم الجنازة فقوموا حتى تُخلِّفكم»، فمرت به يومًا جنازة، فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: «أليست نفسًا».([1])

وكان محمد صلى الله عليه وسلم ربما عاد المرضى من غير المسلمين؛ فقد زار النبي صلى الله عليه وسلم أبا طالب وهو في مرضه، كما عاد الغلام اليهودي لما مرض.([2])

وحرص على القيام بحقوقهم في الجوار فقال: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره»([3])، فشمل حديثه كل جار حتى لو كان من غير المسلمين.

ولم يأت محمد صلى الله عليه وسلم ليسلب الحرية من الذين لم يتبعوه، بل قد تعامل معهم بتسامح نادر الحدوث، وكان من أهم هذه المبادئ في تعامل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مع الآخر:



لا إكراه في الدين:



رغم أن محمدًا وأصحابه يعتقدون يقيناً أن الحق في اتباع الإسلام؛ فهو المتمم لرسالات الرسل من قبل، إلا أنهم لم يحاولوا مطلقًا إجبار أحد على الدخول في الإسلام رغمًا عنه، وقد أبان القرآن جليًّا عن ذلك المعنى بقوله: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } (البقرة: 256).

فلا إرغام لأحد على الدخول في الإسلام حتى لو كان المُرغِم أبًا يريد الخير لأبنائه، ولو كان المُرغَمُ ابنًا لا يشك في شفقة أبيه عليه. وحتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه نهي عن إكراه الناس للدخول في هذا الدين، فقال عز وجل: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } (يونس: 99) .

ولم يكتفِ الإسلام بمنح الحرية لغير المسلمين في البقاء على دينهم، بل أباح لهم ممارسة شعائرهم، وحافظ على أماكن عباداتهم، فقد كان ينهى النبي محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه عن التعرض لأصحاب الصوامع ولم يتعرض يومًا لدار عبادة لغير المسلمين، وقد فقه هذا المعنى جيدًا أصحابه وخلفاؤه من بعده؛ لذلك كانوا يوصون قادتهم العسكريين بعدم التعرض لدور العبادة، لا بالهدم ولا بالاستيلاء، كما سمح لهم بإقامة حياتهم الاجتماعية وفق مفاهيمهم الخاصة، كالزواج والطلاق ونحوه.


قيم العدل مع الآخر:



أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالعدل بين الناس جميعًا مسلمهم وغير المسلم منهم، جاء في القرآن { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } (النساء: 58).

وتلقى محمد صلى الله عليه وسلم الآيات فقام بها أتم قيام، فالأمر كان بالعدل بين الناس جميعًا دون النظر إلى ذواتهم أو أجناسهم أو دينهم أو حسبهم؛ فالكل سواسية حتى لو كان صاحب الحق ظالمًا للمسلمين، فلابد من إعطائه حقه. وأمر القرآن الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يحكم بالعدل إن جاءه أهل الكتاب يُحَكِّمونه بينهم { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (المائدة: 42).

وفي أكثر من ثلاثين حديثًا يشدِّد محمد صلى الله عليه وسلم على أصحابه على حق المُعاهَد، وهو من ارتبط مع المسلمين بمعاهدة، فمنها قوله: «من قتل نفسًا معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا».([4])

ومنها قوله: «ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ له شيئًا بغير حقه، فأنا حجيجه يوم القيامة».([5])

وقال صلى الله عليه وسلم : «من قتل معاهدًا في غير كنهه، حرم الله عليه الجنة».([6])


ونهى محمد صلى الله عليه وسلم عن تعذيب أي نفس ولم يشترط فيها الإسلام؛ فقال: «إن الله عز وجل يُعذِّب الذين يعذبون الناس في الدنيا».([7])

لقد حفظ محمد صلى الله عليه وسلم وضمن لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي أمنهم على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فلا يُتعرض لها بسوء لا من المسلمين ولا من غيرهم، ما داموا في أرض الإسلام.


معاملة حسنة مع الآخر:


لقد تركت تعاليم محمد صلى الله عليه وسلم مبدأً مهمّاً هو أن الأصل في المسلم المعاملة الحسنة مع كل الخلق؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم : «إنما بُعثت لأتمم مكارم وفي رواية ( صالح ) الأخلاق»([8])، ومكارم الأخلاق مع الجميع سواء، المسلم وغير المسلم.

إن التعايش والتفاهم والتعاون بين الأمم والخلق أمر تحتاجه الإنسانية حاجة ماسة، وقد أمر محمد صلى الله عليه وسلم في رسالته بالرحمة في كل جوانبها، وحسن التعامل بشتى وجوهه، تقول آيات القرآن: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (الممتحنة: 8) ، وفسر علماء الإسلام البِرّ هنا في الآية بقولهم: «هو الرفق بضعيفهم، وسد خَلَّة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم، ولين القول لهم - على سبيل التلطف لهم والرحمة -لا على سبيل الخوف والذلة -، واحتمال أذيتهم في الجوار - مع القدرة على إزالته- لطفًا بهم لا خوفًا ولا طمعًا، والدعاء لهم بالهداية، وأن يُجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم، في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم...».([9])


وتتأكد المعاملة الحسنة مع الأقارب منهم، وتصل إلى الوجوب مع الوالدين؛ فتذكر أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش؛ إذ عاهدوا فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة أَفَأَصِلُها ؟ قال: «نعم صِلِي أمك».([10])

ولما قدم وفد نجران -وهم من النصارى-على محمد صلى الله عليه وسلم بالمدينة، دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فكانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم فقال محمد صلى الله عليه وسلم : «دعوهم»، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.
وتقول أم المؤمنين عائشة : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير([11])، وذلك في نفقة عياله صلى الله عليه وسلم .

هذا، وقد أمر محمد صلى الله عليه وسلم المسلمين بحسن رعاية أهل الذمة الذين يعيشون في أكنافهم، فمن احتاج منهم للنفقة تكفلوا به، فالدولة مسؤولة عن الفقراء من المسلمين وأهل الذمة، فتتكفل بالمعيشة الملائمة لهم ولمن يعولونه؛ لأنهم رعية للدولة المسلمة، وهي مسئولة عن كل رعاياها، وقد قال محمد صلى الله عليه وسلم : «كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته»([12]).

وحينما مر الخليفة الثاني عمر وهو في الشام على قوم من النصارى مجذومين أمر أن يُعْطَوْا من الصدقات، وأن يُجرَى عليهم القوت عند العجز والشيخوخة والفقر.


حرية العمل والكسب:


وضع محمد صلى الله عليه وسلم مواثيقه أن لغير المسلمين حرية العمل والكسب في بلاد المسلمين، سواء بالتعاقد مع غيرهم، أو بالعمل لحساب أنفسهم، ومزاولة ما يختارون من المهن الحرة، ومباشرة ما يريدون من ألوان النشاط الاقتصادي، ويستوي حالهم في ذلك مع المسلمين سواء بسواء، ولهم الحق في البيع والشراء وسائر العقود، ولهم الحق فيها وفي كل المعاملات المالية ما اجتنبوا الربا.

وفيما عدا الربا، وبيعهم وشرائهم الخمور والخنزير، وما يضر المجتمع مما نهى الإسلام عنه؛ فلهم الحق فيما تعاملوا به، وإنما نهى عن تعاملهم فيما سبق؛ للضرر الحاصل منه سواء عليهم، أو على مجتمعهم.

كما يتمتعون بسائر الحريات في التملّك وممارسة الصناعات والحِرَف وغيرها
 من موقع   http://www.alssunnah.net/vb/showthread.php?t=8720