=الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده في السراء والضراء ، ونشكره وحده على النعماء والبأساء ، لا يحمد على مكروه سواه ، ولا يقصد في الشدائد سواه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. المطلع على سرائر القلوب .. العليم بخفيات النوايا والغيوب ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله لم يتزعزع لحظة عن يقينه ، ولم يداهن يوماً في سبيله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ، قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) .
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أشراط الساعة ظهور الفتن العظيمة التي يلتبس فيها الحق بالباطل فتزلزل الإيمان حتى يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً .. كلما ظهرت فتنة قال المؤمن : هذه مهلكتي ، ويظهر غيرها فيقول : هذه ، هذه .. ولا تزال الفتن تظهر في الناس إلى أن تقوم الساعة .
ومن الصحابة - رضوان الله عليهم – اهتم حذيفة بن اليمان بأحاديث الفتن ، وكان يقول عن نفسه : (( إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسألون عن الخير ، وكنت أسأل عن الشر مخافة أن أدركه )) .
ونحن في عصر أخذت أمواجها تتلاطم بألوان من الأحوال العجيبة.. موجات فتن تترى ، ومصائب تتوالى ، وتقلبات وتغيرات تلوث العقائد والأفكار والأخلاق .. تسعر القوم شراً كلما تعاظم الناس فتنة تلتها أعظم منها .. فتن الشهوات المحرقة ، وفتن الشبهات المضلة ، وفتن تضارب الآراء سيما عند تفاوت المشارب.
فتن هذا الزمان لا تموج بالناس فحسب .. بل بهم وبأفكارهم ، وربما كان موج الأفكار والحقائق سمة فتن هذا العصر .. فترى الناس في الفتن كالورق اليابس تسفه الريح يمنة ويسرة .. نعم للفتن ضحايا تصرعهم ، وفي ذلك يقول الوزير ابن هبيرة : (( احذروا مصارع العقول عند التهاب الشهوات )) .
ويقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : (( إياكم والفتن لا يشخص إليها أحد .. فوالله ما شخص فيها أحد إلا نسفته كما ينسف السيل الدِمْن )) .
لقد حذَّر الله الأمة المسلمة إن هي خالفت ربها ونبيها وبعدت عن شريعتها أن يفتنها ، قال تعالى : (( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )) ، وهذه الفتنة عامة تشمل مختلف أنواع العقوبات .. كانتشار القتل فيما بينهم ، أو الزلازل والبراكين ، أو تسلط السلطان الجائر عليهم ، أو ظهور أنواع من الأمراض ، أو الفقر ، أو الشدة في الحياة ، إلى غير ذلك .
والفتنة إذا نزلت فإنها تعم الجميع فلا يستثنى منها أحد ؛ لقوله تعالى : (( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة )) ، يقول المفسرون في معناه : (( واحذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصر على الظالمين خاصة ، بل تتعدى إليكم جميعاً وتصل إلى الصالح والطالح )) ، أما الطالح فهو عقوبة لذنبه ، وأما الصالح فلأنه سكت ولم ينكر على الظالم ظلمه .
الفتن خطرها عظيم ، وشرها مستطير .. تهلك الحرث والنسل وتأتي على الأخضر واليابس.. تحير العقلاء ، وترمل النساء وتيتم الأطفال ، وتسيل أنهار الدماء ، وتنزل الويلات والنكبات بالمجتمعات التي تغشاها .. نار وقودها الأنفس والأموال ، ومصير أهلها ومآلهم – عياذاً بالله – شر مآل .
وأعظم الفتن ما كان في الدين .. يرى المرء أمامه سبلاً متشعبة ، وفتناً مترادفة .. لا تزلزل وجدان الإنسان فحسب ، لكنها تفعل فعلها في جعل حياته تضطرب مهما تحصن .. ويبقى المرء في حيرة من أمره ، وخشية من عاقبته .
هناك من تصيبه حالة من اليأس القاتل ، وآخرون يدفنون أنفسهم على هامش الحياة ، وصنف يلعب الشيطان برأسه ، ويجلب على نفسه الوبال ؛ نتيجة فهم قاصر ، أو نقل كاذب ، أو غرض فاسد ، أو هوى متبع ، أو عمى في البصيرة وفساد في الإرادة ، قال تعالى : (( والفتنة أكبر من القتل )) ؛ لذا عنيت الشريعة بموضوع الفتن ، ووضعت أمام المسلم معالم واضحة يهتدي بها ليخرج غير مسخط ربه عليه .. يقول الحسن البصري – رحمه الله - : (( الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم ، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل )) .
الفتن سنة ربانية ماضية لا تتبدل كما في قوله تعالى : (( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون )) كتبها الله عز وجل على عباده لحكم عظيمة ، ومنها : تمحيص الصف المسلم .. فالدعوة ينضوي تحت لوائها الصادق والكاذب ، والمتجرد والنفعي .. وطريق الدعوة يأبى المهازيل والممثلين دور الأصفياء ولا صفاء ، وفي الفتن تنكشف حقائق النفوس .. فالذي يرصد مصلحته ومنفعته ولا يعنيه حق ولا باطل .. عبد الدرهم والدينار .. لا يكون أمثال هؤلاء أصحاب مبادئ وحملة أمانات .. والفتن تظهر خبايا نفوسهم لتعرف الأمة قدرهم فتنبذهم .
وصنف من الناس في الفتن تقوى رجولته ، وتسمو همته ، ويستدرك ضعفه فيزداد صلابة لدور أكبر ، ومهمة أجل وأكرم ، قال تعالى : (( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون )) .. كم من أناس يظن أنهم سيثبتون في الفتن فلا يثبتون ، وأناس يظن أنهم لن يثبتوا فيثبتون .
الفتن تنساب لمن لا يتوقاها انسياب السيل إلى منحدره ، يقول عليه الصلاة والسلام : (( سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ )) أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .. أي من تطلع إليها وتعرض لها وأتته .. وقع فيها .
لذا يرنو المسلم إلى تبين الأسباب المعينة على مواجهة الفتن ليعد للأمر عدته ، ويأخذ أهبته، ويحصن النفس من الإنزلاق ، ومن ذلك ؛ إقبال المسلم على كتاب ربه بقوله وعمله واعتقاده ، تعلماً وتعليماً ، تلاوة وتدبراً .. ففيه العصمة لمن اعتصم به ، والثبات لمن طلبه فيه ، قال تعالى : (( فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى))، وقال : (( قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا )) ، وقال : (( وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك )) .
السلاح الأول لرفع الفتن عن الأمة ؛ إتباع هدى الله .. وفي ظل هذا الاتباع يتربى المسلمون ، ويتولد سلاح العزائم ، وتتحد الأمة تحت راية لا إله إلا الله .
لا ينجي من الفتن إلا تجريد اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتحكيمه في دق الدين وجله ، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله ، حقائقه وشرائعه .
العلم المخلص في تحصيله ، المتقى الله في تطبيقه ؛ نورٌ يضيء الطريق إذا ادلهمت الخطوب ، وتشابكت الدروب ، وأظلمت بالناس الفتن ، قال تعالى: (( أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها )) .
لا حول ولا قوة للعبد إلا بالله ؛ فهو المثبت والمعين ، ولولاه ما رفع المسلم قدماً ولا وضع أخرى ، ولا ثبت على الخير لحظة واحدة .. فاللجوء إلى الله بالدعاء من أهم الأسباب .. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عظيم الشعور بالافتقار إلى ربه ، وكان صلى الله عليه وسلم يكثر في دعائه أن يقول : ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ )) أخرجه الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه ، وكان صلى الله عليه وسلم يكثر الاستعاذة بالله من الفتن ، ويدعو أصحابه لذلك : (( تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )) أخرجه مسلم من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه .
إصلاح النفس وتزكيتها بالطاعة والعبادة من أسباب التثبيت ، قال تعالى : (( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً )) .
الأعمال الصالحة مصاد للفتن ووقاية منها ، وبها يدخر المسلم رصيداً من الخير في الرخاء .. فإذا ما نزلت الفتن كانت النجاة بفضل الله تعالى ، يوضح هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا )) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
لقد وجه القرآن الكريم بالصبر والتقوى لمواجهة الكيد ، والتحصين من الفتن ، قال تعالى : (( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور )) .
يوسف عليه السلام نجاه الله تبارك وتعالى من الفتن بالإخلاص ، قال تعالى : (( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين )) .
وأهل الكهف نجاهم الله وحماهم حين لجئوا إليه سبحانه : (( ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً )) .
إن دفاع الله سبحانه وتعالى عنا وحمايته لنا من الفتن والمكائد إنما يكون على قدر إيماننا وعبوديتنا ، يقول تعالى : (( أليس الله بكاف عبده )) ، وكان السلف يقولون : (( على قدر العبودية تكون الكفاية )) ، ويقول ابن القيم – رحمه الله تعالى – في قوله تعالى : ((إن الله يدافع عن الذين آمنوا )) وفي قراءة : (( يدفع )) يقول رحمه الله : (( فدفعه سبحانه ودفاعه عنهم بحسب إيمانهم وكماله ، ومادة الإيمان وقوته بذكر الله تعالى ، فمن كان أكمل إيماناً وأكثر ذكراً كان دفع الله تعالى عنه ودفاعه أعظم ، ومن نقص نقص )) أي من نقص إيمانه نقص الدفع والدفاع عنه.
ورمضان موسم خير قادم ، وهو فرصة سانحة لنقبل على ربنا ونغترف من بحر الخيرات ، ونزيد من عبوديتنا وطاعتنا في زمن الفتن لتتحقق حماية الله لنا ودفعه ودفاعه عنا .. والإنسان محكوم عليه بالوبال والخسران ما لم يسلك طريق الإيمان والإحسان ، ويصبر على طريق الهدى ، قال تعالى : (( والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر )) .
قتادة بن دعامة – رحمه الله – أحد التابعين عاصر فتنة من الفتن ، ويضع بين يدي الأمة نتائجها فيقول : (( قد رأينا والله أقواماً يسارعون إلى الفتن وينزعون فيها ، وأمسك قوم عن ذلك هيبة لله ومخافة منه ، فلما انكشف إذا الذين أمسكوا أطيب نفساً وأثلج صدوراً وأخف ظهوراً من الذين أسرعوا إليها .. وصارت أعمال أولئك حزازات على قلوبهم كلما ذكروها ، وأيم الله ! لو أن الناس كانوا يعرفون منها إذ أقبلت ما عرفوا منها إذا أدبرت لعقل فيها جيل من الناس كثير )) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل شهر رمضان سيد الشهور ، وضاعف فيه الحسنات والأجور ، أحمده سبحانه وأشكره إنه غفور شكور ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها الفوز بدار القرار والسرور ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أشرف آمر ومأمور ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم النشور .
أما بعد :
فاتقوا الله حق التقوى ، وراقبوه في السر والنجوى .
بعد أيام قلائل يبشر المؤمنون – بإذن الله – بشهر رمضان الذي يفتح الله فيه أبواب الجنة ، ويغلق أبواب النار .. بشهر لا تحصى فضائله، ولا يحاط بفوائده .. والأمة بحاجة إلى هذا الموسم ؛ لينسلخوا منه بعد تمامه مجلوّة قلوبهم ، منوّرة بصائرهم ، قوية عزائمهم .. قد محو عن إراداتهم الوهن والتردد ، ودفعوا عن أنفسهم الحيرة والفتور ، وغذوا إيمانهم بالقوة والنور .
يستقبل رمضان بتهيئة القلوب ، وتصفية النفوس ، وتطهير الأموال ، والتفرغ من زحام الحياة .
أعظم مطلب في هذا الشهر : إصلاح القلوب ، فالقلب الذي ما زال مقيماً على المعصية يفوّت خيراً عظيماً ، فرمضان هو شهر القرآن ، والقلوب هي أوعية القرآن ، ومستقر الإيمان ، فكيف بوعاء لوّث بالآثام كيف يتأثّر بالقرآن ؟
ويستقبل رمضان بتهيئة النفوس وتنقيتها من الضغائن والأحقاد التي خلخلت العرى وأنهكت القوى ، ومزّقت المسلمين شرّ ممزّق ، فالذي يطلّ عليه رمضان عاقاً لوالديه ، قاطعاً لأرحامه ، هاجراً لإخوانه ، أفعاله قطيعة ، دوره في المجتمع النميمة، هيهات .. هيهات .. أن يستفيد من رمضان قال تعالى : (( فَاتـَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيـْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولـَهُ إنْ كُنـْتُمْ مُؤْمِنِينَ )) .
ومن حكم رمضان أن يتفاعل المسلم مع إخوانه في شتى البقاع ، ويتجاوب مع نداءات الفقراء والضعفاء، متجاوزاً بمشاعره كل الفواصل، متسلقاً بمبادئه كل الحواجز ، يتألم لآلامهم ، يحزن لأحزانهم ، يشعر بفقرائهم .
ويستقبل رمضان بتطهير الأموال من الحرام ، فما أفظعها من حسرة وندامة ، أن تلهج الألسن بالدعاء ولا استجابة ، وربنا تبارك وتعالى يقول : (( وَإِذَا سَأَلـَكَ عِبَادِي عَنـِّي فَإِنـِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلـْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلـْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلـَّهُمْ يَرْشُدُونَ)) .
ألا وصلوا وسلموا - عباد الله – على رسول الهدى ...
http://www.a2ma.net/vb/At671.html