سلوا عنا ديار الشام ورياضها، والعراق وسوادها، والأندلس وأرباضها، سلوا مصر وواديها، سلوا الجزيرة وفيافيها، سلوا الدنيا ومن فيها..
سلوا بطاح إفريقيا، وربوع العجم، وسفوح القفقاس، سلوا حفافي الكنج، وضفاف اللوار، ووادي الدانوب، سلوا عنا كل أرض في الأرض، وكل حيِّ تحت السماء..
إن عندهم جميعا خبراً من بطولاتنا وتضحياتنا ومآثرنا ومفاخرنا وعلومنا وفنوننا.. نحن المسلمين!!
هل روى رياض المجد إلا دماؤنا؟ هل زانت جنَّات البطولة إلا أجساد شهدائنا؟ هل عرفت الدنيا أنبل منا أو أكرم، أو أرأف أو أرحم، أو أجلَّ أو أعظم، أو أرقى أو أعلم؟
نحن حملنا المنار الهادي والأرض تتيه في ليل الجهل، وقلنا لأهلنا: هذا الطريق!.
نحن نصبنا موازين العدل، يوم رفعت كل أمة عصا الطغيان.
نحن بنينا للعلم داراً يأوي إليها، حين شرده الناس عن داره.
نحن أعلنَّا المساواة، يوم كان البشر يعبدون ملوكهم، ويؤلِّهون ساداتهم.
نحن أحيينا القلوب بالإيمان، والعقول بالعلم، والناس كلَّهم بالحرية والحضارة.
نحن المسلمين!
نحن بنينا الكوفة، والبصرة، والقاهرة، وبغداد.
نحن أنشأنا حضارة الشام، والعراق، ومصر، والأندلس.
نحن شِدنا بيت الحكمة، والمدرسة النظامية، وجامعة قرطبة، والجامع الأزهر.
نحن عمرنا الأموي وقبة الصخرة، وسُرَّ من رأى، والزهراء، والحمراء، ومسجد السلطان أحمد، وتاج محل.
نحن علَّمنا أهل الأرض وكنا الأساتذة وكانوا التلاميذ.
نحن المسلمين!
منَّا أبو بكر، وعمر، ونور الدين، وصلاح الدين، وأورنك زيب . منَّا خالد، وطارق، وقتيبة، وابن القاسم، والملك الظاهر.
منَّا البخاري، والطبري، وابن تيمية، وابن القيم، وابن حزم، وابن خلدون.
منَّا معبد وإسحاق وزرياب.. منا كل خليفة كان الصورة الحيَّة للمثُل البشرية العليا.
وكل قائد كان سيفاً من سيوف الله مسلولاً.. وكل عالم كان من البشر كالعقل من الجسد.
منَّا مائة ألف عظيم وعظيم.
نحن المسلمين!
قوتنا بإيماننا، وعزنا بديننا، وثقتنا بربنا..
قانوننا قرآننا، وإمامنا نبينا، وأميرنا خادمنا.. وضعيفنا المحقُّ قويٌّ فينا، وقويُّنا عون لضعيفنا، وكلنا إخوان في الله، سواءٌ أمام الدين.
نحن المسلمين!
مَلَكنا فعدلنا، وبنينا فأعلينا، وفتحنا فأوغلنا، وكنا الأقوياء المنصفين، سننَّا في الحرب شرائع الرأفة، وشرعنا في السلم سنن العدل، فكنا خير الحاكمين، وسادة الفاتحين..
أقمنا حضارة كانت خيراً كلها وبركات، حضارة روح وجسد، وفضيلة وسعادة، فعمَّ نفعها الناس، وتفيأ ظلالها أهل الأرض جميعا، وسقيناها نحن من دمائنا، وشدناها على جماجم شهدائنا!.
وهل خلت الأرض من شهيد لنا قضى في سبيل الإسلام والسلام، والإيمان والأمان؟
نحن المسلمين!
هل تحققت المثُل البشرية العليا إلا فينا؟
هل عرف الكون مجمعاً بشريًّا إلا مجمعنا، قام على الأخلاق والصدق والإيثار؟
هل اتفق واقع الحياة، وأحلام الفلاسفة، وآمال المصلحين، إلا في صدر الإسلام؟
يوم كان الجريح المسلم يجود بروحه في المعركة، يشتهي شربةً من ماء، فإذا أخذ الكأس رأى جريحا آخر فآثره على نفسه، ومات عطشان.
يوم كانت المرأة المسلمة يموت زوجها وأخوها وأبوها، فإذا أخبرت بهم سألت: ما فعل رسول الله؟ فإذا قيل لها: هو حيٌّ، قالت: كل مصيبةٍ بعده هيِّنة.
يوم كانت العجوز ترد على عمر، وهو على المنبر في الموقف الرسمي، وعمر يحكم إحدى عشرة حكومة من حكومات اليوم.
يوم كان الواحد منَّا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويؤثره عليها ولو كان به خصاصة.
وكنَّا أطهاراً في أجسادنا وأرواحنا ومادتنا والمعنى.
وكنَّا لا نأتي أمراً ولا ندعه، ولا نقوم ولا نقعد، ولا نذهب ولا نجيء إلا لله.
قد أَمَتْنَا الشهوات من نفوسنا، فكان هوانا تبعاً لما جاء به القرآن.
لقد كنَّا خلاصة البشر، وصفوة الإنسانية.
وجعلنا حقًّا واقعاً ما كان يراه الفلاسفة والمصلحون أملاً بعيداً.
نحن المسلمين!
تُنظم في مفاخرنا مائة إلياذة وألف شاهنامة .
ثم لا تنقضي أمجادنا ولا تفنى، لأنها لا تُعدُّ ولا تُحصى.
من يعدُّ معاركنا المظفرة التي خضناها؟... من يحصي مآثرنا في العلم والفن؟
من يستقري نابغينا وأبطالنا؟.. إلا الذي يعدُّ نجوم السماء، ويحصي حصى البطحاء!!.
اكتبوا ( على هامش السيرة) ألف كتاب.. و ( على هامش التاريخ) مثلها.
وأنشئوا مائة في سيرة كل عظيم، ثم تبقى السيرة ويبقى التاريخ كالأرض العذراء، والمنجم البكر. نحن المسلمين!
لسنا أمة كالأمم تربط بينها اللغة، ففي كل أمة خيِّر وشرير.
ولسنا شعباً كالشعوب، يؤلف بينهم الدم، ففي كل شعب صالح وطالح، ولكننا جمعية خيرية كبرى، أعضاؤها كل فاضل من كل أمة، تقي نقي..
تجمع بيننا التقوى إن مصل الدم، وتوحِّد بيننا العقيدة، إن اختلفت اللغات، وتُدنينا الكعبة إن تناءت بنا الديار..
أليس في توجُّهِنا كل يومٍ خمس مرات إلى هذه الكعبة، واجتماعنا كل عام مرة في عرفات، رمزاً إلى أن الإسلام قومية جامعة، مركزها الحجاز العربية، وإمامها النبي العربي، وكتابها القرآن العربي؟
نحن المسلمين!
ديننا الفضيلة الظاهرة، والحق الأبلج.. لا حُجُب ولا أستار، ولا خفايا ولا أسرار.
هو واضح وضوح المئذنة، أفليس فيها ذلك المعنى؟
هل في الدنيا جماعة أو نِحلة تكرر مبادئها وتُذاع عشر مرات كل يوم، كما تُذاع مبادئ ديننا- نحن المسلمين- على ألسنة المؤذنين: أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
نحن المسلمين!
لا نهن ولا نحزن ومعنا الله.. ونحن نسمع كل يوم ثلاثين مرة هذا النداء العلوي المقدس، هذا النشيد القوي: الله أكبر..
البطولة سجية فينا، وحب التضيحة يجري في عروقنا.. لا تنال من ذلك صروف الدهر، ولا تمحوه من نفوسنا أحداث الزمان..
لنا الجزيرة التي يشوى على رمالها كل طاغ يطأ ثراها، ويعيش أهلها من جحيمها في جنات.
لنا الشام وغوطتها التي سُقيت بالدم، لنا فيها الجبل الأشم.. لنا العراق لنا (الرميثة) وسهول الفرات.. لنا فلسطين التي فيها جبل النار.
لنا مصر دار العلم والفن ومثابة الإسلام..
لنا المغرب كله، لنا ( الريف) دار البطولات والتضحيات.
لنا القسطنطينية ذات المآذن والقباب، لنا فارس والأفغان والهند وجاوة.
لنا كل أرض يُتلى فيها القرآن، وتصدح مناراتها بالأذان.
لنا المستقبل.. المستقبل لنا إن عُدنا إلى ديننا. نحن المسلمين!
------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
اختيار موقع الدرر السنية www.dorar.net
المصدر: كتاب (قصص من التاريخ) - علي الطنطاوي - المكتب الإسلامي - ص 15.